الباحثون فى علم الاجتماع الدينى يعرفون إميل دوركايم.. هو فيلسوف فرنسى عاصر ما يعرف فى التاريخ الفرنسى بالجمهورية الثالثة وما صاحبها من اضطرابات وانقسامات سياسية على مدى سبعين عاما.. فى هذه الأثناء بحث دوركايم عن السبل الممكنة لترميم التصدعات المجتمعية الناجمة عن صدمة هزيمة الامبراطور نابليون الثالث على يد الجيوش الألمانية، والتى قادت لهذه الفترة الصعبة..
كان الفرنسيون قد فقدوا بوصلتهم، وصار السؤال الشائع على الألسنة: إلى أين نحن ذاهبون؟ بعد تفكير طويل توصل دوركايم إلى إعادة اكتشاف أثر الدين فى مساندة البناء والحراك الاجتماعى، وتحديد مجريات التغيير، وتعضيد ثقة أفراد المجتمع بأنفسهم ــ الدين من وجهة نظر دوركايم كان هو الحل..
دوركايم كان يهوديا، أمضى طفولته يتعبد وسط عائلة من الحاخامات، ثم أمضى شبابه يتأمل وسط دارسى الفلسفة فى أعرق المدارس الفرنسية، قبل أن يتمرد على ما أسماه «الفلسفات السطحية» التى لم تقدم جديدا من وجهة نظره لإنقاذ المجتمع من الهلاك.. أبحر بتأملاته تلك فى أفكار سان سيمون وأوجست كونت وجون ستيوارت ميل.. وخلص فى النهاية إلى أن قيم المجتمع وقواعده السلوكية لها وجود مستقل ومكانة عليا فوق الأفراد، ولديها القدرة على إكراههم على الالتزام بها، وبما أن الدين يعتمد على قوى عليا يتواصل معها العابد من خلال الشعائر، فإن هذا الدين هو الوحيد القادر على الحفاظ على تلك القيم والقواعد السلوكية.. هذه النظرية هى التى لخصها دوركايم فى مشروعه التربوى، الذى انتهى فيه إلى تعظيم الأثر الروحى على البناء الاجتماعى، حتى وإن كانت الأخلاق التى نادى بها فى رأى البعض موصوفة بالعلمانية والعقلانية..
•••
من هنا نشأت التنظيمات الدينية فى المجتمعات التى توجد بها الأديان الكبرى، مثل الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية، والتى «تتولى فيها الصفوة الدينية توجيه الشعب المنغمس فى شئونه الدنيوية»، وفقا لتعبير العالم الألمانى ماكس فيبر صاحب تعريف البيروقراطية.. هذه التنظيمات تتكون من بناء هرمى يساعد على تكريس التمييز الطبقى بين رجل الدين والمواطن العادى، لمجرد الاختلاف فى درجة الاهتمام والاشتغال بالدين عند كل منهما.. أمر طبيعى إذن كما يرى دوركايم وفيبر وغيرهما من رواد علم الاجتماع الحديث أن يحدث التصادم بين التنظيم الدينى والنظام الحكومى نتيجة الصراع فى المصالح، فكل منهما تقوم فلسفته على ولاء الأعضاء، ويزداد هذا الصراع تعقيدا حين يهتم التنظيم الدينى بأمور دنيوية من اختصاص النظام الحكومى، مثل الخدمات الصحية وإقامة المبانى واستصلاح الأراضى.. التاريخ يقول إن المجتمعات قبل الصناعية (التى تقع بين المجتمعات البدائية والحديثة) سقطت فى فخ هذه المنافسة بين النظامين الدينى والسياسى.. وهذا ما يجرى فى مصر الآن!
•••
تصادف أنى كنت أقرأ تحليلا لمشروع دوركايم الفريد فى كتاب قيّم للمفكر محمد أحمد بيومى، ومقالات بقلم ماكس فيبر حول تأثير الدين على الاقتصاد والسياسة جمعتها وترجمتها جامعة أكسفورد، فى وقت استمعت فيه لشهادات ثلاثة من طلابى المنخرطين فى جماعة الإخوان المسلمين حول مصير الأنشطة التربوية فى الجماعة بعد وصولها للسلطة.. صارحنى الطلاب الثلاثة بأن اجتماعات أسرهم التنظيمية معطلة منذ الثورة، وهى الاجتماعات الأسبوعية أو نصف الأسبوعية التى يتدارس فيها أعضاء الجماعة أمور دينهم ويتعلمون العقيدة والشرع على أيدى مسئولى أسرهم، أو النقباء كما يطلق عليهم فى أدبيات الجماعة، والنقيب هو بمثابة الأب الروحى لأفراد أسرته التنظيمية.. ولا يستثنى من هذا المنهج التربوى أى عضو فى الجماعة، بمن فى ذلك المرشد ذاته، الذى يلتزم بعضوية إحدى الأسر، ولا يتولى رئاستها بالضرورة.
بعد أن أكد لى أحد قيادات الجماعة آسفا تجميد النشاط التربوى فى معظم المناطق التى يغطيها التنظيم، واقتصاره على معسكرات ليس على رأس أهدافها تنقية النفوس وتجديد الإيمان بالله، كنت مضطرا للربط بين ظاهرتين: الأولى هذا الإهمال الذى أعقب اندلاع الثورة فى الجوانب الروحية لأنشطة جماعة الإخوان المسلمين، والثانية تخلى قطاع كبير من أعضائها (خاصة الشباب) عن أخلاقيات الدعوة التى تبنتها الجماعة عبر العقود السابقة على الثورة، وهو الأمر الذى تجلى بوضوح لا يقبل الجدل فى ساحات التواصل الاجتماعى على الإنترنت، والساعات السوداء التى شهدت صداما فى الشوارع بين أفراد من التيارين الدينى والمدنى.
هذا بالتحديد ما يخشى منه الباحث الأمريكى توماس أوديّ (1915-1974) على التنظيم الدينى.. وهو من أفضل علماء الاجتماع الذى اهتموا بأثر العلمانية على الأديان.. يقول أوديّ إن من بين المشكلات التى قد تواجهها التنظيمات الدينية غلبة اهتمامها بالأمور الدنيوية على حساب الروحية (تماما مثلما يفعل الإخوان المسلمون الآن).. ويتضاعف أثر هذه المشكلة على جسد التنظيم كلما ازدادت علمانية وحداثة المجتمع، وفى مواجهة ذلك يلجأ التنظيم الدينى إلى التوصل لحماية أعضائه وعقيدته بأى وسيلة، وهو ما يجعل الوصول للسلطة السياسية على رأس أولوياته، باعتبارها الغطاء الذى تستمد منه هذه العلمانية والحداثة شرعيتها.. ويستثمر التنظيم الدينى هنا ما تحدث عنه دوركايم كأبرز العوامل التى يساهم بها المجتمع فى استمرار الدين، وهو صفات القداسة التى يضفيها على أعضائه، والتى تكسبهم نفوذا غير قابل للتشكيك.. هذا ما يراهن عليه معظم رجال الدين السياسى الآن فى مصر، ربما دون أن يعرفوا شيئا عن إميل دوركايم أو ماكس فيبر!
•••
انشغلت جماعة الإخوان إذن عن مسئوليتها التربوية تجاه أبنائها، وعن دورها الدعوى تجاه المجتمع، فهل نجحت فى مهمتها الجديدة كتنظيم سياسى يتحكم فى السلطة ويحميها؟ قد يكون من المبكر اقتراح إجابة قاطعة عن هذا السؤال قبل أن تختمر التجربة ويتوافر ما يكفى من الشواهد على ظواهرها، لكن من المفيد أيضا استشراف بعض النهايات المتوقعة لهذه المرحلة من خلال التأمل فى أبرز ملامح المشهد حتى الآن.. يقدم لنا الباحثان الأمريكيان تشارلز برادن وإليزابيث نوتنجهام وصفة للتنظيمات الدينية التى تحظى بفرص أكبر فى التكيف مع المجتمعات الحديثة، ومن ثم البقاء على قيد الحياة لفترة أطول.. نوتنجهام (التى تخصصت فى فهم وتحليل البوذية) تشترط لذلك اشتراك أعضاء التنظيمات الدينية فى حل المشكلات الملحة فى مجتمعاتهم، وهذا يتطلب ديمقراطية كاملة وعداء للبيروقراطية داخل التنظيم، أما برادن (المبشر المسيحى الذى درس اللاهوت والأدب فى عشرينيات القرن الماضى)، فيرى ضرورة أن تهتم هذه التنظيمات بالمناطق المتخلفة، وأن توجه جل أنشطتها لمدمنى المخدرات والمنحرفين، وألا تهتم بأخطاء الناس، بقدر ما تحاول فهم سلوكهم، وألا تدخل فى صدام مع المجتمع حول مدى التزامه بالقيم الاجتماعية والدينية.. وبل ويشترط برادن تكيف هذه التنظيمات مع الأشكال الجديدة للتعبير الدينى فى المجتمعات الغربية، مثل الموسيقى والرقص والرحلات والحفلات.. على هذه التنظيمات من وجهة نظره لكى تعيش وتبقى أن تعكس المحيط الاجتماعى، بدلا من إقحامه بالإكراه فى عالمها.
هذه هى بعض أبرز الشروط لاستمرار وازدهار التنظيمات الدينية فى المجتمعات الحديثة، إلى جانب مخاطر إهمالها الجانب التربوى لصالح التكالب على السلطة، ولا نحتاج إلا للنظر بعمق فى المشهد الراهن من أجل اختبار مدى انطباق هذه السمات على جماعة الإخوان المسلمين، لكى نرجح هل الجماعة فى طريقها إلى الازدهار أم إلى الاضمحلال، ولو بعد حين