نشرت صحيفة الخليج الامارتية مقالا للكاتبة «عائشة عبدالله تريم» جاء فيه، بعد عشر سنوات من التواصل الاجتماعى، قررت ألا أتواصل، وها قد مضى شهر وأنا بعيدة عن عالم ودعته بملء إرادتى بعدما سجلت فيه حضورا ومشاركات عديدة.
فى أسطر معدودة، نشرت فى مواقع التواصل رسالة وداع ذكرت فيها مدى إخلاصى ووفائى ومشاركتى أصدقائى محطات كثيرة فى حياتى المهنية والخاصة، وقلت للأصدقاء فى العالم الافتراضى إننى قررت الانقطاع عن هذا العالم المشترك فيما بيننا إلى أجل غير مسمى.. وذيلت الرسالة بأمنياتى للجميع بالخير، وبنقرة زر سجلت الخروج.
لا أذكر أن هناك سببا محددا دعانى لاتخاذ ذلك القرار، ففى لحظات غير متوقعة، قفزت بمفردى من السفينة، وتركتها تمخر عباب بحر التواصل الاجتماعى بمن حملت. خطوة تحتاج حتما إلى جرأة، فما الذى دفعنى إليها من دون تخطيط؟ أحيانا نتخذ قرارا من غير سبب واضح بعدما نشعر أن أمورا فى حياتنا قد تشابكت وتضاربت.
لم يكن ما فعلته خطوة تحذيرية مما يكتنف مواقع التواصل الاجتماعى من سلبيات، كما أنه لم يكن بالتأكيد محاولة لتسليط الضوء على إيجابياتها، ففى ذلك الفضاء الافتراضى، كما هو الحال فى العالم الواقعى، قد نصادف الجميل والقبيح. وإذا كان العالم الافتراضى يتيح لنا فرصة التنقل فى المواقع بحرية تامة ومن غير أن نكشف عن هويتنا أحيانا، لكننا فى النهاية بشر، أى مخلوقات لديها عيوبٌ، تحكمها غريزة الخوف وتغلبها الرغبة فى بلوغ الكمال.
ومن هذا المنطلق، نعيش اليوم فى عالمين نسعى فيهما إلى الكمال مستهلكين طاقاتنا فى علاقات التواصل الاجتماعى فى العالم الافتراضى. لكن الدافع مختلف تماما عما يحدث فعلا، فخلال علاقاتنا، قد تُنكأ جروح قديمة، وقد تحدث جروح جديدة، ذلك أن التعامل المتواصل لسنوات مع وسائل التواصل، يجعلنا نواجه تيارا من المعلومات اللفظية والبصرية، قد تطفئ فى البداية ظمأ عقولنا التواقة للمعرفة، وتشبع نهم فضولنا يوما بعد يوم، لكن هذا التدفق من المعلومات يتحول بعد فترة من الزمن إلى سيل جارف يهدد أدمغتنا ويجعلها متحفزة باستمرار فتصاب بالإجهاد.
حين قال الشاعر العربى العباسى الكبير سلم الخاسر «من راقب الناس مات هما»، لم يكن يعلم أن كلماته ستعكس حالنا اليوم فى مواقع التواصل، وأنها ستصف بدقة ما يجرى فى هذا الزمن، حيث كل تصرفات الناس وأفعالهم مراقبة ومكشوفة على الملأ.
قد يدافع البعض عما يحدث من منطلق أنه حرية شخصية، لا تتعدى رغبة الشخص فى متابعة وتعقب تحركات الآخرين بأدق تفاصيلها، فمن لا يريد معرفة ما يفعله الغير يستطع تسجيل خروجه من أى موقع تواصل يتفاعل معه. لكن الأمر فى الواقع ليس بهذه البساطة، فقرار الانسحاب من مواقع التواصل الاجتماعى لا يختلف عن قرار ترك التدخين أو الكحول أو أى عقاقير تسبب الإدمان، والأمر يحتاج بلا شك إلى عزم وإرادة، قد لا يملكهما كل الناس.
وفى اليوم الذى سيدرك فيه العالم ذلك، يصبح البحث عن حل للشفاء أسهل. فالتواصل عبر هذه المواقع، يخلق حالة من التبعية تجعل المرء مبرمجا للضغط على زر «تحديث»، فيشعر كأن العالم سينهار حوله إن لم يفعل. لذا ترى متابع وسائل التواصل قلقا ومتلهفا دوما لمعرفة أحدث ما يرده منها وكأن مصير الإنسانية متوقفا على السرعة التى يتلقى فيها المعلومات.
لا أدرى كيف يتعامل الآخرون مع قضية الإدمان هذه حين يكتشفون حقيقة ارتباطهم بهذا العالم، لكننى، من خلال تجربتى الشخصية، أعترف أننى تحججت لسنوات طوال بضرورة التواصل المستمر مع العالم الافتراضى لمعرفة الأخبار ومتابعتها بما تفرضه على طبيعة عملى. وقد كان هذا السبب كافيا ومنطقيا كى أغوص فى أعماق هذا العالم. وعلى الرغم من أننى لم أكن أستخدم مواقع التواصل مثل «تويتر»، «فيسبوك»، «سناب شات» أو «إنستجرام» بفاعلية كما يفعل الكثيرون، وعلى الرغم من أننى كنت أكتفى بتصفحها يوميا وعلى مدى الساعة، فقد عبرت ملايين الفِكَر والصور والانطباعات العشوائية دماغى، وإن كنت لا أذكرها اليوم كلها. وظللت لفترة طويلة مصابة بعادة «التحديث» بحثا عن المزيد.
عندما أفكر بعدد الكتب التى كان بإمكانى قراءتها فى ذلك الوقت، وبعدد المقالات التى كان بإمكانى كتابتها، ينتابنى شعور بالندم على وقت أهدرته فى معرفة وقتية وعابرة. ولقد دفعنى تراكم هذه المشاعر السلبية إلى السعى إلى الانفصال التام، فانسحبت دون أن أنظر خلفى. فى الأيام الأولى، شعرت بحالة من السريالية سببها غياب ذلك العالم بصوره العديدة التى توثق أفضل لحظات يعيشها الناس، فقد اختفى ذلك الثقب الذى يدخل فيه المرء حين يُشار إليه بالصمت أو التوقف عن الكلام أثناء محادثة ما، إذ لم تعد بداية يومى مكرسة لما يجول فى فكر الآخرين ولما يزودوننا به من أخبار وأحوال... راحت أناملى تمتد لا شعوريا إلى مكانها المعتاد على الهاتف حيث تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعى، وكنت أشعر للحظات بأمر غريب حين لا أعثر على ما أبحث عنه.
وبعد عدة أيام، انتابنى شعور بالوحدة لم أعرفه منذ سنوات، لكنه شعور مريح حررنى من الكثير من القيود. فأنا لم أعد مرتبطة بجهاز، ورجعت إلى عالم واقعى ملموس وغير مرشح. اقتربت منه أكثر فأحببته بكل عيوبه.
بعد تجربتى المريحة هذه، لا أحث الناس بالطبع على ترك وسائل التواصل الاجتماعى، لكننى أقدم للجميع نصيحة بأن ينالوا قسطا من الراحة منها. فترة تطهير باختيارهم، قد تمتد لأيام، أو أسابيع. هى مرة فى كل فترة، يقطع فيها المرء اتصاله مع الحشود ويعيد اتصاله مع ذاته، لأننا كلما عشنا بمنظور الآخرين، كلما فقدنا خصوصياتنا. وكما يقوم المرء بتنظيف جسده، فإنه مدين لنفسه بتطهير عقله. لن يكون الأمر سهلا، لكن النتائج الحقيقية لا تأتى بسهولة.
الخليج ــ الامارات