لا أدرى لماذا استولى علىّ هذا المطلع المضحك للأغنية القديمة: «جرحونى وقفلوا الأجزاخانات» وظل على لسانى ساعات متواصلة بعدما طالعت صحف الصباح فى يوم من أيام الأسبوع الماضى. احتوت الصحف على أخبار المؤتمر الذى انعقد فى شرم الشيخ وقوامه المفترض هو الشباب، والفقرات التى قرأتها هى أجزاء من الحوارات التى دارت هناك.
لا يُهم مَن قال ومَن استمع ومَن صَدَق ومَن لم يُصَدِق. لا يُهم مَن دَمِعَت عيناه ضحكا ومَن تأثر حقا. المهم بالنسبة لى هو ما اعترى لغة الخطاب فى السنوات الأخيرة مِن تغيُر ملحوظ، يترسخ مع كل مناسبة جديدة ويوطد أقدامه ويستقر، فالأسلوب المتبع مِن أشخاص كبار فى مواقع مسئولية، إضافة إلى اللغة والألفاظ والصياغات التى ما انفكوا يستخدمونها فى عديد من الأحوال، تبدو جميعها دخيلة على السياسة وأفعالها.
فى الخطاب الرسمى السائد مفردات وعبارات شعبية أحيانا، فاقدة للترابط كثيرا، وساذجة المحتوى فى مُجملِها وعلى امتداد الخط، خاصة حين يجنح أصحابها إلى المدرسة الرومانسية. سمعنا فى الطلعات الأولى أننا يجب أن نحتضن بعضنا البعض وكأننا فى اجتماع عائلى حميم، ثم سمعنا عن الشعب الذى لم يجد مَن يحنو عليه ويرفق به وكأننا نتسول على قارعة الطريق، وتوالت التعبيرات على المنوال ذاته، إلى أن سمعنا أخيرا عن الثلاجة التى ظلت خاوية لسنوات متواصلة تستهلك الكهرباء ولا تحمل سوى الماء، وكأنها استدعاء يواكب العصر لحكاية الإناء الشهير الذى ظل يغلى ماؤه بينما لا يحوى سوى حجر. كلام عاطفى لا يسمن ولا يغنى من جوع حقيقى، قد يستميل فئات من الناس لكنه لا يقنع صاحب عقل، ثابت الجأش، كامل البصيرة.
***
الكلام لدى المصريين وكثير من العرب هو محض كلام، وقد قيل منذ زمن إن العرب ظاهرة صوتية لا أكثر ولا أقل، ولم نكذب خبرا فأثبتنا فى غير مقام هذا القول، أطلقنا كلاما لا أول له ولا آخر وعدمنا الفعل. الكلام الخارج من أفواهنا لا يتجاوز لحظة خروجه فى العادة، مع ذلك أحيانا ما يُترجم إلى أفعال، وإذا حمل صفة الرومانسية جاءت الأفعال حاملة التوصيف ذاته. سمعنا فى الفترة الماضية عن السلام الدافئ ثم لم نلبث أن رأينا أحضانا دافئة، وعزاء دافئا، ونشرت الصحف عقب هذا الدفء الهائل عن تغيير فى المناهج الدراسية، حيث تحولت ثقافة «الصراع» العربى الإسرائيلى التى عرفناها طيلة العمر إلى ثقافة «السلام»، هكذا بين ليلة وضحاها، ربما كون السلام صار طريقا أكثر دفئا وأمانا على مستوى الأنظمة ومساوماتها.
لا يتوقف الأمر على حدودنا الجغرافية وإنما يمتد خارجها. قرأت فى الأشهر الماضية عنوانا رئيسا عن تركيا التى أصابها «وجع فى قلبها» مِن عدم مساندة مصر لها خلال محاولة الانقلاب. لا أعلم يقينا إن كانت صحفنا هى التى تبادر وتصيغ العالم على طريقتها تلك، مُلتقِطة العدوى مِن المسئولين المصريين، أو أن المنطقة نفسها تخضع لموجة رومانسية من التعبيرات، تصلح مادة مكثفة لبرنامج يومى ساخر.
يقول شكوكو فى المنولوج: «جرحونى وقفلوا الأجزخانات، لا قالوا لى إزيك ولا سلامات»، وعلى غراره يتحدث مسئولونا ويتمادون، مُبتعدين بخطابهم عن المكانة التى يجب أن يحافظوا عليها ما داموا فى مناصبهم، والتى لابد وأن يجتنبوا الخروج عن مقتضياتها قولا أو فعلا.
***
على كل حال اعتدنا؛ مواطنون عاديون وسياسيون ومسئولون، على صك واستخدام تعبيرات شاعرية الطابع ربما منذ وعينا، ولا أدل على ذلك مِن تعبيراتنا القديمة الحية حتى الآن رغم زوال شروطها وأماراتها؛ لا ننفك نؤكد أن مصر هى أم الدنيا فى محافلنا وبياناتنا الرسمية، ولا ننفك نذكر أنها الشقيقة الكبرى فى المنطقة العربية، وربما كان للتوصيفين أساس متين، لكنها مرة أخرى اللغة المستخدمة والمفردات التى اعتدناها مستدرة للعواطف لا مُخاطِبة العقل سواء صَحَت وصدقت أو جانبها الصواب وجافتها الظروف.
فى بعض المرات يشى الخطاب الشاعرى المقحم على حقل السياسة والمتعثر فى ألغامها، بإحساس المتحدث بضعف كلامه وخفة وضحالة حجته واضطراب منطقه. وحين تفشل الرومانسية ذاتها فى حل الأزمة، فإنها تدفع المتحدث للبحث عن المزيد من أدوات للإقناع؛ صرنا نسمع بين الجملة والجملة قسما، وبين العبارة والعبارة حلفا واستحلافا، وبين الكلمة والكلمة توكيداتَ لا حصر لها؛ وكأن التأثير المطلوب إحداثه فى الجماهير لم يعد ممكنا إلا بأضعاف مضاعفة من الاستعطاف أو التهويل. كلما تنامت جرعة اللا معقول، تبعتها جرعات من الغثاء اللغوى لا تزيدها إلا سوءا.
ترى كيف صار عالمنا قاسيا جدا وعنيفا جدا وشديد الرومانسية فى آن؟