انتصارات إسرائيل التكتيكية وفشلها الاستراتيجى - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انتصارات إسرائيل التكتيكية وفشلها الاستراتيجى

نشر فى : الجمعة 4 نوفمبر 2022 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 4 نوفمبر 2022 - 9:20 م
نشرت صحيفة القدس الفلسطينية مقالا للكاتب مصطفى البرغوثى بتاريخ 3 نوفمبر تناول فيه فشل المؤسسة الإسرائيلية الصهيونية فى إخماد نيران المقاومة الفلسطينية سواء بالسلاح والاعتقال أو الاتفاقيات الواهية بشأن حقوق الشعب الفلسطينى فى تحرير بلاده، إضافة إلى ادعائها الكاذب بالانتصار على المقاومة لكسب الأصوات فى الحملات الانتخابية.. نعرض من المقال ما يلى.
تتراوح ردود أفعال المسئولين الإسرائيليين على ما يجرى فى الضفة الغربية بين الهلع من حجم المفاجأة التى أصابتهم من تصاعد الأنشطة المقاومة للاحتلال والمبالغة فى ادّعاء انتصاراتٍ وهميةٍ يحقّقها جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية فى قمعه الشعب الفلسطينى. وردّا الفعل، رغم طبيعتهما المتناقضة، يعبّران جوهريا عن عجز مزمن فى فهم الشعب الفلسطينى ودوافعه، بما فى ذلك عجز عن توقع أفعاله، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالأجيال الشابة، كما يعبّران عن سوء تقدير وفشل فى تقييم نتائج الصراع المحتدم على الأرض. ولا يختلف سلوك الاستعمار الاستيطانى الإسرائيلى هنا عن أمثلة كثيرة لأنظمة استعمارية، فشلت بشكل متكرّر فى فهم الشعوب التى تحكمها، وتضطهدها، ومارست غطرسةً غبيةً انتهت بها دوما إلى انهيار المنظومة الاستعمارية التى أنشأتها.
وتعمق الأيديولوجيا العنصرية للحركة الصهيوينة، والفكر القائم على نفى الآخر، بالإضافة إلى الحاجة لإنكار الجريمة الكبرى التى ارتكبت خلال النكبة عام 1948 ضد الشعب الفلسطينى، العجز عن رؤية الفلسطينيين شعبا له حقوق وخصائص إنسانية مثل الشعوب الأخرى، ولديه، بالتالى، قابلية لتطوير قدرة على مقاومة الظلم الذى يتعرّض له. وتبدو المواقف الفكرية للمنظومة الإسرائيلية محكومةً بخوف مزمن من أن أى اعتراف جزئيٍّ بإنسانية الفلسطينيين سيجرّ معه كارثة الاعتراف بحجم الجريمة التاريخية التى ارتكبتها الحركة الصهيونية، وما يعنيه ذلك من انهيار كامل لبنيان الرواية الإسرائيلية، التى قدّمت للعالم والإسرائيليين أنفسهم لثمانية عقود. ولذلك أيضا تُمعن المؤسسة الإسرائيلية فى وصف كل فعل فلسطينى مقاوم مهما كان نبيلا بالإرهاب، وتُبالغ، فى الوقت نفسه، فى تضخيمه لتؤكّد الادعاء بأن إسرائيل هى الضحية، رغم أنها من يمارس الاحتلال ويكرّس نظام الأبارتهايد العنصرى.
يتبارى حكّام إسرائيل فى إراقة دماء الفلسطينيين وقودا لحملاتهم الانتخابية، ولا يتورّعون عن استخدام الأسلحة الفتّاكة ضد جمهورٍ مدنيٍّ فى الأساس، ويطلقون يد المستعمرين المستوطنين للاعتداء على الفلسطينيين وبيوتهم، وممتلكاتهم، وأشجارهم، بحمايةٍ كاملةٍ من جيش الاحتلال. وفى كل جولة مواجهة، سواء فى القدس، وباقى الضفة الغربية، أو قطاع غزّة، أو الداخل الفلسطينى، تستخدم المؤسسة الإسرائيلية أكثر الأسلحة فتكا، ومنظومة استخباراتية بالغة التطوّر والتعقيد، وتستخدم العقوبات الجماعية، والبطش بالمدنيين والأطفال، ثم تعلن انتصاراتها التكتيكية، بالتدمير، وقتل الشهداء، وتصفية المجموعات، واعتقال الآلاف.
سطحيا، يبدو الأمر كل مرّة، وكأن الاحتلال حقق انتصارات يبيعها لجمهوره المتطرّف، ويتفاخر بها. لا يمكن اعتبار هذه النتائج انتصارات، فالتفاوت فى الخسائر أمر مفهوم فى ظل الفارق الهائل بين القدرات العسكرية والبشرية التى يملكها جيش الاحتلال وما لدى المقاومة الفلسطينية. ولكن الاحتلال، يخفى، وربما لا يدرك، أن نجاحاته التكتيكية ليست سوى مظاهر خادعة لفشل استراتيجى كبير، لأن الأمور تُقاس، فى نهاية المطاف، بنتائجها.
أولى هذه النتائج التى تؤكّد فشل المؤسسة الإسرائيلية ــ الصهيونية، رغم النكبة والتطهير العرقى وعدوانى 1956 و1967، أن الجزء الأكبر من الشعب الفلسطينى نجح فى البقاء والصمود فى وطنه ليصبح عدده اليوم أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين على أرض فلسطين التاريخية.
ثانى هذه النتائج أن كل عمليات القمع، القتل، والاعتقال، لم تفلح فى فرض الخنوع والرضوخ على الوجود البشرى الفلسطينى، الذى صار وجودا مقاوِما، يستخدم كل أشكال المقاومة من أبسطها إلى أشدها تعقيدا.
تكمن النتيجة الثالثة فى فشل مشروع أوسلو، الذى نُصب فخّا للفلسطينيين، بهدف كسب الوقت للحركة الصهيونية لنشر الاستيطان ولإجبار الفلسطينيين على الرضوخ لاحتلالٍ دائم تحت غطاء حكم ذاتى محكوم بالسيطرة الإسرائيلية؛ إذ تجاوز الشعب الفلسطينى ذلك المشروع، وعاد إلى التلاحم حول خيار استراتيجية المقاومة والكفاح لتغيير ميزان القوى، بدل الرضوخ لاختلاله لمصلحة إسرائيل.
وكانت النتيجة الرابعة، عودة تلاحم مكوّنات الشعب الفلسطينى وساحاته حول رؤية لمشروع وطنى مشترك، فى ساحات النضال المشترك، التى رأينا نموذجا ساطعا لها فى معركة القدس عام 2021.
لعل النتيجة الاستراتيجية الخامسة ستكون تطور الوعى الجمعى الفلسطينى نحو إدراك أن الهدف الفلسطينى الجامع لم يعد إنهاء الاحتلال فقط، بل ويشمل إسقاط كل منظومة الأبارتهايد والتمييز العنصرى فى كل فلسطين التاريخية.
بعد 74 عاما من النكبة، وتدمير 500 قرية وبلدة فلسطينية وتهجير 70% من الشعب الفلسطينى، وبعد 55 عاما من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، يتكاتف الشعب الفلسطينى حول خيار المقاومة، والنضال، وتتعاظم فرص عزل إسرائيل على صعيد الشعوب دوليا. ويبدو واضحا حدوث تحوّل نوعى فى وعى شعب بكامله، ويتعمّق الإدراك بأن الاستعمار الاستيطانى الإسرائيلى سيواجه المصير نفسه الذى واجهه الاستعمار فى بلدانٍ عديدةٍ أخرى، ويترافق ذلك مع وعى فلسطينى شامل بضرورة الاعتماد على النفس، وتنظيم الذات، وتحدّى كل منظومة الاحتلال والأبارتهايد العنصرية الإسرائيلية.
أما خيار إسرائيل بتدمير ما سمّى «حل الدولتين» وترسيخ واقع «دولة واحدة بنظام أبارتهايد» فلا ديمومة له، ونهاية طريقه، إن استمر، لا يمكن أن تكون سوى زواله، وفرض المساواة التامة فى الحقوق القومية والمدنية، وفى مقدمتها حق الشعب الفلسطينى المطلق فى تقرير مصيره بحرية.
وفى نهاية المطاف، ورغم القمع، ونكران إسرائيلى للحقائق، ينهض الشعب الفلسطينى مرّة أخرى ماردا مقاوما، مؤكّدا قول الشاعر والمناضل الفلسطينى توفيق زياد: «نحن لسنا أفضل من أى شعب فى العالم، ولكن لا يوجد فى هذا العالم شعبٌ أفضل منا».
التعليقات