غَمْزَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:00 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غَمْزَة

نشر فى : الجمعة 4 نوفمبر 2022 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 4 نوفمبر 2022 - 9:20 م
تعطَّلت الأوراقُ في طوافها بين المكاتِب والحجراتِ وتبدَّى إنهاؤها مُستحيلًا قبل مرورِ أيام، ولما كاد الرجلُ ييأس وهمَّ بالانصراف، همَسَت رفيقتُه وهي تشير خِلسةً ناحية مُوظَّف يبدو ضليعًا في عملِه، خبيرًا بدهاليزِه، قادرًا على تحقيقِ المُعجزات: اغمزه بخمسينة.
• • •
الغمزةُ هنا كنايةٌ عن رِشوَة؛ تحوَّلت منذ زمَنٍ ومع الانتشارِ المُذهلِ إلى طقسٍ ثابتٍ من طقوسِ حيواتنا، وغدت كلمةً سحريةً تفتح ما انغلقَ من أبوابٍ، وكي لا نؤذي مشاعرَ بعضنا البعض، ونحفظ فيما بيننا درجةً من الوِدّ، ونقي أنفسَنا شرَّ التبرُّمِ والاعتراض، أخضعنا الكلمةَ لتعديلٍ وتهذيبٍ فجعلناها إكرامية؛ يُخرِجها المرءُ من جيبه عن طيبِ خاطرٍ ما أراد إنجازَ مَقصِدَه، وحفظَ هدوءِ أعصابِه، وإراحةَ باله.
• • •
الغَمْزَةُ في قواميسِ الُّلغةِ العربيةِ هي المرةُ الواحدةُ مِن الفعلِ غَمَزَ؛ أيّ أشار بالعينِ أو الجفنِ أو الحاجِب، وقد جرى العرفُ على أن تَصِفَ الغَمْزَةُ تلك الحركةَ التي يُغلِق المرءُ فيها عينًا ويفتحها في لحظة. الغَمْزةُ في العادة مُشبعةٌ بانتقادٍ ما، والغَمْزُ يعني السعيَ بما فيه شرٌّ؛ فإن غَمَزَ واحدٌ على آخرٍ فقد عابَه وانتقصَ قدرَه، وإذا قيلَ رجلٌ غَمزٌ فالمعنى أنه ضعيفٌ، أما إذا غَمَزَت الدابَّةُ فقد أُصيبَت بالعَرَجِ ووهنَ قائمُها.
• • •
في غالِبِ الثقافاتِ، يرى الناسُ الغمَّازتين علامةَ حُسْنٍ وجَمَال؛ تتجليان عند الابتسامِ على الخدين فتُضفيان على وَجه صاحبهما أو صاحبتهما مَلاحةً وجاذبيةً. رغم هذا؛ يعدهما الأطباءُ مِن العيوبِ الخَلقيةِ التي يمكن إصلاحُها إن استدعَت الحاجةُ، ولا عجب إذًا أن تُصنَّف الغمَّازتان في بعضِ البلدانِ والمُجتمعاتِ كنوعٍ من التشوهاتِ الظاهرةِ التي تجدر مُعالجتُها؛ وإن بالتدخُّل الجراحي.
• • •
قد تأتي الغَمزةُ إيماءةً بريئةً عابرة، وقد تحملُ رسائلَ مُتعدّدة الهدفِ مُتباينة المحتوى، فإن تعذَّر الكلامُ في بعض المَواقِف، صارت بديلًا مُناسبًا يحلُّ مَحلَّ المنطوق ويوصلُ المَعلومةِ المَرغوبةِ بأقصر سبيل. قد يغمزُ واحدٌ لآخر لافتًا انتباهَه إلى أمرٍ يُدبَّر في غَفلةٍ مِنه، أو تَغمِزُ أمٌ لولدِها كي تثنيَه عن سُلوكٍ مَعيب لا تريد أن يلتفتَ إليه الناسُ، وربما تَغمِزُ جارةٌ لجارتِها وهي تومئ لأخرى تعتزم لاحقًا أن تستهدفَها بالنميمة. كذلك قد يَغمِز رجلٌ لامرأةٍ بنيَّةِ المُشاغلةِ وإعلانِ الإعجابِ؛ وقديمًا أنشد الشاعرُ العباسيُّ بهاء الدين زهير: أنا لا أبالي بالرقيبِ.. ولا بمنظرهِ القبيحِ، غَمزُ الحواجِبِ بيننا.. أحلى مِن القَوْلِ الصَّريحِ، كما أنشد ابن المُعتز: ما نِلت مِنه غيرَ غَمزةِ عينِه.. ورسائل بوصالِه أو سُخطِه. الغمزاتُ في هذه الحال أرقُّ من سابقاتها وأخفُّ وقعًا.
• • •
إذا قيلَ غَمَزَت السنارةُ؛ فتعبير يَصِفُ واقعًا بسيطًا، أو ينوء بمَجازٍ مُركَّب. ثمَّة نهرٌ أو بحرٌ أو ترعةٌ، وثمَّة أسماكٌ تلتقطُ الطُعمِ في لهفة؛ فتنتهي به حياتها. كذلك ثمَّة بشرٌ في حُكمِ السَّمكة؛ يتوجهون نحو الطعمِ فاقدي البصيرة، ويطبقون أفواههم على الخُطَّافِ في سذاجة؛ كما لو عَمَت أعينُهم عنه، فيَعلقون به في التوّ. الصيادُ في الأحوالِ كافة ماكرٌ خبيثٌ، يدرس ضحيتَه عن قُرب ويعرف مَواطنَ ضَعفِها، ويلوّح لها بالمُغرِيات المناسبة، وإذا ذُكِرَ الصيدُ والغَمزُ ومَدُّ الشِباكُ؛ داعبت الذاكرةَ "عدوية"؛ تلك الأغنيةُ البديعةُ التي كَتَبَ كلماتِها عبد الرحمن الأبنودي وأداها محمد رشدي فصارت من علاماتِ الغناءِ الشعبيّ: صيَّاد ورحت اصطاد صادوني. اختلطت الأدوار في الأغنية، فغدا الصيادُ صَيدًا سهلًا، وغَمَزَت السنارةُ في قلبِه لا في قلبِ سمكته، والحقُّ أن الطرفين قد تبادلا مَوضعيهما بلا سابقِ تدبير، ففي أمورِ العشقِ لا يوجد صيدٌ مُطلقٌ ولا صائدٌ دائم.
• • •
أحيانًا ما تكون الغَمزةُ دعوةً جادةً للسكوت؛ فثمَّة ما لا يجبُ الإفصاح عنه ولا يُستَحَبُّ الاستطرادُ فيه، وثمَّة ما ينبغي حجبُه تمامًا عن الآخرين، وما لا يجوز طرحُه في حَضرةِ أناسٍ بعينهم، فإذا لحظَ الغمزةَ من لم يكُن بها مَقصودًا؛ بات الحرجُ وافرًا والخجلُ عارمًا، وأصبح التنصُّلُ منها واجبًا؛ بما أُتيح مِن حجَجٍ وتفسيرات.
• • •
يقترن الغمزُ عادةً باللمزِ. كلاهما طَعنٌ في شَّخصٍ بحضُورِه لا مِن خلفِ ظهرِه؛ الأولُ بالحركةِ المرئيةِ والثاني بالكلمةِ المَسموعةِ، وما أكثر الغمزاتِ واللمزاتِ والهمزاتِ التي صرنا نجابهُها ونغرقُ فيها، فالحالُ أن الأدمغةُ عاطلةٌ عن كُلّ مُثمِر مُفيد، والفراغُ عام والأنفسُ في تردٍ وأفول، يشقُّ عليها العيشُ وإن على هامشِ الهامشِ، وقد غُلَّت الأيدي عن الفعلِ المَطلوب؛ فما بقيَ إلا انشغالٌ بتوافه الآخرين.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات