فَضِيلة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:58 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فَضِيلة

نشر فى : السبت 5 يناير 2019 - 12:10 ص | آخر تحديث : السبت 5 يناير 2019 - 12:10 ص

في مسرحية "إنها حقًا عائلة محترمة" يظهر الأستاذ أبو الفضل؛ وقورًا، مُلتزمًا، يتبع ثلّةً مِن القواعد الصارمة التي لا يقبل التلاعبَ فيها، أو التنازل عنها، أو خلخلة النظامِ الذي استنَّه للحفاظ عليها؛ ولو كان الفاعل هو أحد أفراد عائلته الصغيرة. أبو الفضل يمتاز بكونه رجلًا فاضلًا حقًا، بل منبعًا للصفات الحميدة، لا يمكن التشكيكُ في أخلاقِه أو العبثُ بمبادئه؛ لكنه على حين غرة، يُؤخَذ بغرام الراقصة أُوسَة، فيتبدَّل مَفهومُه الخاص عن الفضيلة، ويتفكَّك في لحظات؛ ليُعاد بناؤه وتشكيله وفقًا للموقف الجديد، ولنكتشف ببساطة أن صراعاتَنا الذاتية، قد تدفعنا لاستحداثِ تعريفاتٍ، تلائم احتياجاتنا وتستوفيها.
***
الفضيلةُ في القواميس والمَعاجم العربية هي الدرجة الرفيعة مِن الفضل، والفضلُ هو المَعروف، ونقيضُ الكلمتين النقص والنقيصة، ومُشتقاتهما تُستَخدَم كأسماءٍ للرجال والنساء، فهناك فَضل وفاضِل وفاضِلة وغيرها، وربما تكون الإذاعية البارزة "فضيلة توفيق" التي عرفها الجمهور الواسع باسم "أبلة فضيلة"، مِن أشهر مَن حَملن هذا الاسم في تاريخنا المُعاصِر، والأقرب حضورًا في الذاكرة أيضًا؛ فقد تربَّعت على عرش مُقدمي برامج الأطفال في الإذاعة المصرية لما يزيد على نصف القرن، حيث وجَّهت جُلَّ طاقتِها وإمكاناتها لبرنامجها "غنوة وحدوته".
***
يُقال إن لصاحبِ الاسم منه نصيبٌ، وكما حظى فؤاد المهندس بخصالٍ مُشتقَّةٍ مِن اسمه في المسرحية البديعة، لا تشذُّ حكاياتُ أبلة فضيلة عن القاعدة، فقد تحلَّت جميعُها بفضائل مُتنوِّعة؛ حِكمة يخرج بها السامع ولو لم يبحث عنها، ومَوعظة لا مفرَّ مِن أن يتلقاها وإن انشغل بغيرها. لكُلّ حكايةٍ سردتها مَقاصدها الخاصة وقِيمها، ولكُلّ حدوتة فضيلة، تسعى لإبرازها ونشرها. بدأ برنامج "غنوة وحدوتة" في النصف الثاني مِن الخمسينيات تقريبًا، واستمر صوتُ صاحبتِه يطلُّ على مُتابعيه عقودًا مُتواصلة، إلى أن كَفَّت الإذاعة المصرية عن بثّه منذ أعوام قليلة، بسبب سفر أبلة فضيلة.
***
في الخطاباتِ الورقيةِ التي تبادلها الناسُ بأريحيةٍ خلال زمنٍ مَضى، وفي الرسائلِ الإلكترونية التي لا ننفكّ نبعث بها في حاضرنا سريعة مُتعاقبة؛ ديباجات ننقشها ولا نتوقف أمامَها، وتعبيراتٌ شِبه ثابتة، نبدأ النصَّ بها وبمثلِها نختَتِمه. "السيد الفاضل" و"السيدة الفاضلة" للبدايات، ثم "وتفضلوا بقبول فائق الاحترام" للنهايات. درجنا على تحميل الصياغاتِ الرسميةِ بمُشتقات الفَضل الكثيرة، ففيها احترامٌ وبعضُ المَهابة، حتى إننا اعتدنا على استباقِ لقبِ "الشيخ" الذي نشير به إلى كُلِّ رجلِ دينٍ، بكلمة ”فضيلة"؛ بغضِّ النظر عن جوهر ما نكنُّ للشخص ذاته مِن مشاعر، وما نحمل اتجاهه مِن ظنون، فالمُوكل إليه بعلمٍ واسعٍ، يستحق في عرفنا الصفةَ بلا تفكير. على كل حال؛ يحمل اللقبُ توقيرًا للمُخاطَب، وتواضعًا مِن الكاتب، لكنه يفقد مِن رونقِه الكثيرَ؛ لفرطِ الاستعمال، ولتكراره في مَواضع لا يستقيم فيها ذكر الفضلِ والأفاضلِ والفُضليات.
***
لمفهوم "الفضيلة" في الفلسفة تعريفاتٌ عدة، هو في أبسطِها وأقدمِها؛ أن يعلمَ المرءُ مَواطِن الخير وأن يعملَ بها، وإذا كان أرسطو يرى الفضيلةَ وَسطًا بين طرفيّ رذيلتين، فربما رذيلةٌ أخفَّ وطأةٍ مِن أخرى، ولعلَّ في اختلاف الظروفِ ونِسبيةِ المَفاهيم، ما يسمح بتبديلِ المَواقع بين الرذائل والفضائل مِن حينٍ إلى آخر، ولا شكَّ أن التلاعبَ اللفظيّ بالتعريفات، واردٌ على مستوى الخِطاب العام .والأمثلة ليست ببعيدة، فقد رأينا في السنوات الماضية احتفاءً بفعلِ الوشاية ومُرتكبيه بعد إعادة تعريفه؛ بما جَعلِه إيجابيًا مُحببًا، وبما حَوَّل الرذيلةَ إلى فضيلةٍ والعكس.
***
أن "يتفضَّلَ" المرءُ بشيء؛ فأن يجود به دون أن يكون واجبًا مَفروضًا عليه، لذلك اشتهر التعبير "مِن فضلك وإحسانك"، فالمفردتان تتعديان مَحدودية الواجب إلى سِعة العطاء غير المُقيد بشرط، وقد درج الناس على أن يثمنوا ما يقع لهم مِن مَحاسن الأقدار بقولة: "فَضلٌ وعَدل"، وإذا اقترن الفضلُ بالعدل فإضافة، وتدعيم وكمال للمعنى، وإذا تقدم الفضلُ على العدل، يكون في طيات القول ما يتجاوز المتوقع، وما يزيد على المأمول، وما يحقق المرجو ويفيض؛ في الفضل كرم، وفي العدل اتزان واستواء.
***
مِن الفضائل الأثيرة التي شارفت على الاندثار في أيامنا هذه؛ فضيلةُ الصمت. الصمتُ في العادة مَصحوب بالإنصات، والصمتُ والإنصاتُ يزكّيان التأملَ ويحرضان على المَعرفة، ومنهما ينبع الإدراكُ وتتجلى لحظاتُ الاستنارة الصافية، وإذا عُرِف الصمتُ بكونه فضيلةً، فثرثرةٌ فارغة هي على الجانب المُقابل رذيلةٌ أو نقيصة، قد تروح عن فاعلها، وتهون مِن متاعبه لحظيًا، لكنها لا تعطيه فرصة لاستكشاف الحقائق، ولا تدع له مساحة هادئة للتفكير، والعثور على ما ضلَّ واختفى من حلول. الصمتُ عندي فضيلة، والسعي إلى المعرفة ولا شكَّ فضيلةٌ؛ لا تعدلها أخرى.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات