ينتظر الكثير من الناس تقييمًا لما حدث فى السنة السابقة يجعلهم قادرين على رؤية أو توقع ما هو قادم فى العام الجديد. وتلبية لهذا الشغف دأبت بعض أهم برامج التوك شو على استضافة المنجمين فى نهاية العام لقراءة الطالع والتعرف عما تخبئه الأيام، حتى قررت أخيرًا الهيئة الوطنية للإعلام، ومنعت هذا النوع من الفقرات تصحيحا للمسار الإعلامى. لكن تطلع الناس للمستقبل، وخشيتهم من المجهول، مع عدم اليقين لما ستسفر عنه الأحداث يدفعهم دفعًا إلى البحث عن إجابات.
بعض الأسئلة تدور حول أحوال المجتمع، وبعضها عن أحوال البلد، والبعض الآخر عن أحوال المنطقة. وعادة يبدأ السؤال عن المستقبل بالاستفسار عن الصورة العامة، ثم يتحول بسرعة إلى الموقف الشخصى. فمثلًا، يكون السؤال كيف تتصرف مصر مع النظام الجديد فى سوريا، ثم يتحول إلى أحوال السوريين والسوريات فى مصر، ثم يصل إلى لب الموضوع، وهو كيف يؤثر هذا على حياتى اليومية. ومن ثم تتبارى التحليلات باختلاف مدارسها لاستشراف المستقبل.
يستطيع التحليل السياسى الإجابة عن هذه الأسئلة، وينطلق من اللحظة التى وقع فيها الحدث. وينشغل بتحليل المواقف، ومعرفة من يقفون وراءها، وما غرضهم، لكى يرسم صورة عما هو قائم من أحداث. ويأتى التفسير بحسب حجم الحدث. فمثلًا سقوط نظام يحكم سوريا منذ عام 1970 هو أمر جلل، وله تداعيات كثيرة على المنطقة وعلى مصر تحديدًا. وتختلف نتائج التحليل بحسب نقطة البداية التى يبدأ منها تناول الموضوع.
فلو كانت البداية هى اجتياح جبهة النصرة لدمشق وسقوط الأسد، فإن هذا التحليل يغفل ماهية جبهة تحرير الشام وأين كانت، وماذا تريد. ولو كانت البداية حرب 7 أكتوبر التى شهدت مواجهة بين إيران وأذرعها من ناحية، وبين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى، فإن نتائج التحليل تتغير. ولو كانت البداية ثورات الربيع العربى عام 2011، فإن الإجابة ستتغير أيضًا. وإذا عدنا إلى الوراء قليلًا إلى مفهوم «الفوضى الخلاقة» ومفهوم «الشرق الأوسط الجديد» التى طرحتهما إدارة جورج بوش الابن عام 2005 عقب غزوها للعراق، فإننا سنحصل على إجابات أخرى، وهكذا دواليك، حتى نصل إلى أحداث 11 سبتمبر، وقبلها العشر سنوات التى أعقبت نهاية الحرب الباردة، والتى اشتهرت فيها مقولات من نوعية «نهاية التاريخ» كمؤشر على سيادة الليبرالية الديمقراطية. وواكب ذلك حديث الرئيس الأمريكى الأسبق، جورج بوش الأب، عن «النظام العالمى الجديد»، والذى بزغت بعده مقولات توضح طبيعة المواجهات فى مسار تكوين ذلك النظام وأشهرها مفهوم «صراع الحضارات» الذى يشير إلى تحول المواجهة العالمية من مرحلة الأيديولوجيات مثل الشيوعية إلى مرحلة الحضارات ومن قلبها الأديان.
هكذا بحسب نقطة البداية تكون الإجابة، لكى نفهم السياق الذى أوصلنا إلى ما يدور من حولنا ومن ثم نتوقع ما قد يأتى من تطورات هذا العام. وإذا لم تصل إلى إجابة تلقائية حتى الآن، فمن فضلك أعد قراءة الفقرات السابقة ثم أجب عن السؤال التالى، هل وجدت العرب فاعلين فى كل هذه الفقرة؟ فماذا سيتغير فى 2025؟
• • •
إذا كانت مدرسة التحليل السياسى تبدأ بتحليل الظواهر، فإن مدرسة التاريخ تنطلق من تحليل السياق. ونلاحظ هنا أن التغير فى التاريخ يحدث ببطء ويستمر لحقب أو سنوات طويلة. وبسبب خاصية البطء فى عملية التحول، يمر التغيير بدون أن نلاحظه. ولكى ندركه علينا المقارنة بين لقطات زمنية معينة مثل أوضاع عام 2025، مع الأوضاع التى كانت سائدة فى عام 2000، وما قبلها فى عام 1975، 1950، و1925، وصولًا إلى عام 1900 وما قبله إذا استلزم الأمر، لكى نفهم السياق.
هنا ستجد إجابات مختلفة عما كانت فى الفقرة السابقة. فمنذ 102 عام سقطت - قانونيًا- الخلافة العثمانية، والتى انتهت عمليًا عام 1908 بثورة تركيا الفتاة. ومنذ ذلك الحين تحولت أوضاع العرب، حيث انتقلوا من وضعية الدولة الجامعة إلى وضعية الدويلات حديثة التكوين، والتى تبحث خلال عملية تكوينها عن مفهوم الدولة بين طيات مفهوم الخلافة. وعاون العرب فى تلك الآونة قوة الاحتلال البريطانى والفرنسى، فنشأت الدولة العربية الحديثة من نقطة بداية «هجينة»، لا هى نابعة من موروث المنطقة الحضارى وعمقها القيمى، ولا هى دولة الحداثة الليبرالية التى طبعتها إنجلترا وفرنسا فى المنطقة. واختلفت عملية تكوين كل دويلة عن الأخرى، حيث تكونت دول الخليج من جذور الدين مع القبيلة فى شبه جزيرة العرب. فإذا أردت أن تضرب أساس هذه الدول، انزع منها الدين. بينما تكونت دول الهلال الخصيب من توافق أغلبية كل دولة مع طوائفها لا سيما فى الشام والعراق، فإذا أردت أن تضعف هذه الدول اضرب توافقها العرقى وإذعانها للسلطة المركزية. بينما أدى تجانس المجتمع فى مصر إلى التحور حول مركزية الدولة وفى قلبها الجيش الذى هو بمثابة عمودها الفقرى.
هذا عن شكل التنظيم، أما عن معنى وطنيتها، وقوميتها، وقيمها، فإن كل مجتمع اختلف فى مساره، وإن اجتمعوا فى لحظة تاريخية على القومية العربية ثم تلاشت وكأنها لم تكن. وعادة تهتم الدراسات التى تتناول تكوين الدول العربية بمرحلة الحرب العالمية الأولى، واتفاقيات سايكس-بيكو، وإعلان بلفور كمحطات تاريخية فارقة شكلت مسار المنطقة. ولكن تجد القليل من الدراسات تتناول تأثير التحول الجذرى فى مسار تركيا، من دولة الخلافة، إلى دولة عضو فى الناتو، على الدول العربية. وهكذا، لم يؤدِ التكوين الجديد للدول العربية إلى بزوغ مشروع قيمى يستند إلى الموروثات الحضارية للمنطقة، وإنما فى أفضل الأحوال استمرت المنطقة حتى فى أوج القومية العربية تسير فى مسار التابع، والناقل، والمتلقى، كما تحولت البيئة المحيطة بها، مثل تركيا وإيران، وإثيوبيا، ناهينا عن إسرائيل إلى رءوس حربة متوغلة فى شرايينها. وإذا لم يوضح هذا الموقف عما هو قادم فى 2025، فمن فضلك أعد قراءة هذه الفقرة من أولها ثم أجب عن السؤال التالى، هل تغير شىء فى الإرادة العربية فى كل هذه الفقرة؟ فماذا سيتغير فى 2025؟
• • •
الشاهد، أن القادم من وجهة نظر سياسية أو تاريخية، لا يحمل جديدًا فهو لا يعتمد على الداخل العربى فى شىء. وإذا كنت قلقًا من التغيير الذى جرى فى سوريا، سواء كنت تخشى منه، أو عليه، فإن التحليل السياسى والتاريخى، يؤكدان هذه المخاوف. فالقوة التى هندست التغيير فى سوريا لها مآرب مرتبطة بنقطة البداية التى تحدث عنها جورج بوش الأب بعدما فرغوا من الاتحاد السوفييتى. ويتماشى هذا مع الطروحات التى تبناها برنارد لويس، المؤرخ البريطانى الأمريكى الذى كان متخصصًا فى موضوعات الإسلام والشرق الأوسط، والذى كتب عن الصراع الأيديولوجى بين الغرب والعالم الإسلامى. وأثرت أعماله، بما فى ذلك مقالته «جذور الغضب الإسلامى» 1990، على صناع السياسات فى الولايات المتحدة.
دون أن تملك المنطقة إرادة التغيير، فإن المسار الحالى مستمر.