انهال الرئيس ترامب بسيل من القرارات التنفيذية فى الشهر الأول من ولايته الثانية، صدمت الداخل الأمريكى والخارج على حد سواء. فبدأ من ضم كندا لتصبح الولاية رقم 51، والاستحواذ على الجزيرة القارية جرينلاند التابعة للدنمارك، والاستيلاء على قناة بنما، وإعادة المهاجرين والمهاجرات إلى بلدانهم، مرورا بفرض جمارك على حلفائه الأوروبيين لكى يذعنوا لرؤيته، كما وضعها على الصين لكى يفرمل نموها الاقتصادى على حساب بلاده، وصولا إلى رغبته فى تسوية الصراعات الدولية بطريقة الصفقة الحاسمة، حيث فاجأ المنطقة العربية برغبته فى امتلاك غزة بعد أن تفرغ إسرائيل من نقل سكانها «طواعية» للخارج، ولم يفته فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لأنها تجاوزت اختصاصاتها فى ملاحقة قادة إسرائيل المتهمين بالإبادة الجماعية، ثم أعلن عن خطته لإنهاء الصراع فى أوكرانيا بما يشمل اقتسام ثرواتها مع روسيا. حتى بات السؤال، لماذا يستعجل ترامب؟
الرئيس الضعيف، هو من يريد أن يثبت لمتابعيه أنه قادر على تغيير كل شىء فى لمح البصر. ولذلك يصدر قرارات من النوعية التى تجعل المتابعين يفتحون فمهم من وقعها. وهذا ما يشعر هذه النوعية من الرؤساء بأنهم قادرون. نلاحظ أن ترامب الذى لديه أغلبية فى مجلسى النواب والشيوخ الأمريكى، بوسعه تمرير سياساته عن طريق الكونجرس. ولكنه يعلم أن أغلبها لن يحصل على الأصوات المطلوبة، فانحاز لوضع الجميع أمام الأمر الواقع بإطلاق طوفان القرارات التنفيذية، أو الطوفان الترامبى، ليباغت الجميع. وهو يراهن على عامل السرعة لتمرير أكبر قدر من السياسات قبل أن يقف المجتمع فى الداخل، والدول فى الخارج، ضد سياساته. وحتى بعد أن يستفيق البعض، فإنهم سيمضون الوقت فى إصلاح بعض وليس كل ما غيره ترامب. ولذلك يشعر بأن أجندته انتصرت.
• • •
الواقع أن بعضا من سياسات ترامب الخارجية يسير فى الاتجاه المعاكس لمصالح الولايات المتحدة. وأى دارس للاستراتيجية الأمريكية، يعرف أن فتح جبهتى أوكرانيا وغزة، عطلتا الولايات المتحدة أو على الأقل شغلتها عن التصدى لأهم غرمائها، وهى الصين. والآن، بدل من تقوية التحالف الغربى، كشف ترامب عن تهديدات لحلفائه بضم دولهم، أو بعض من أراضيهم، مما يحول جزءا من موارد حلفائه ضد التهديد الترامبى المباغت.
ولقد أفصح جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، عن قناعته فى اجتماع مع قادة الأعمال الكنديين، خلال قمة اقتصادية فى تورنتو يوم 7 فبراير الجارى، بأن ترامب يريد «ضم بلدنا، وهذا واقع». فالمسألة ليست فرض رسوم جمركية لكى تذعن كندا وتحمى الحدود الأمريكية، ولكن إدارة ترامب تطمع فى ثروات كندا الطبيعية! هذا وأجرت دول الناتو محادثات غير رسمية لبحث إرسال قوات عسكرية لجزيرة جرينلاند الدنماركية! بينما أمريكا اللاتينية بدورها مقبلة على فترة من زعزعة الاستقرار السياسى لأن الإرادة الترامبية تستخف بسيادة الكثير من دولها. فبدلا من المنافسة تجاريا ضد الصين لكيلا تستحوذ على تشغيل قناة بنما، هدد ترامب بالاستيلاء على القناة عنوة!
يصب أسلوب البلطجة الترامبية لصالح الصين، فبينما تريد الولايات المتحدة قطع أذرع الصين التجارية، وتقليص مكاسب طريق الحرير، فإنها فى الواقع تزيد من قناعة الدول بأن ترامب ما هو إلا تعبير عن روح الاحتلال الأمريكى الذى ينزع الثروات بالضغط إن استطاع، أو عنوة إذا لزم الأمر. وهذا تغيير فج فى أسلوب التعامل الأمريكى مع العالم، يكلف الولايات المتحدة الكثير. وأقل ما ينذر به هذا الأسلوب، هو ميل الدول للتعامل، بعيدا عن الولايات المتهورة الأمريكية، حتى تمر سنوات ترامب! ولكن المشكلة، ثمة تحدٍ آخر فى هذا المنعطف، حيث يبدو أن ترامب أو بعضا من دراويشه داخل الحزب الجمهورى يعملون على تعديل الدستور الأمريكى، أو على الأقل إيجاد ثغرة ليستمر ترامب لولاية ثالثة! وبغض النظر عن جدوى هذا الطرح، فإنه مؤشر على عدم الاستقرار السياسى. وما يعنينا فى الخارج أن القرارات والسياسات الترامبية مستمرة لكى يقنع الناخب الأمريكى بأن استمرار ترامب فى صالح الشعب الأمريكى. هذا إذا مرت فترته الثانية بسلام!
• • •
الشاهد أن ترامب لا يقيم وزنا لسيادة الدول، ولا يعتد بمصالحها العليا، ويدوس على كرامتها وإرادتها وكأنها لا شىء. ويرى أنه فى سبيل الغاية «أمريكا أولا» فإن كل السبل والسياسات مبررة. حتى لو كان ذلك يمحق شعوبا، ويضيع حقوقا، ويطيح بالنظام الدولى ذاته. وهو يبرر أفعاله بأن «الآخر»، أيا كان الآخرون، هم المذنبون، فهم يستحوذون على خيرات أمريكا، ويستغلونها، ويعيشون على «قفاها» بدون دفع الثمن المناسب.
من فضلك، أعد قراءة هذه الفقرة من أولها، واستبدل كلمة ترامب بهتلر، وأمريكا بألمانيا النازية.
يعتبر ترامب أن الرب حفظ حياته من محاولة الاغتيال من أجل الإتيان بسياسات تصحح الأوضاع كما يراها. ولمنطقتنا العربية نصيب من الرؤية الترامبية، التى ورثها الأخير من زوج ابنته جارد كوشنر، والذى سبق وطرحها فى ولاية ترامب الأولى، وأعاد الحديث عنها فى مارس 2024، حيث يرى «مار إيه لاغو» ترامبية جديدة فى غزة، أو الريفييرا كما وصفها ترامب نفسه، وذلك عبر نقل الناس، ولم يقل الشعب الفلسطينى فهو مثل اليمين الإسرائيلى لا يعرف شعبا بهذه التسمية، وبعد ذلك، تتولى الولايات المتحدة إزالة القنابل ومخلفات الحروب بتمويل من «المنطقة» الخليجية فى الواقع، ثم بناء الريفييرا التى تتيح فرص العمل، ونهر العسل، وجنة الدخل المرتفع، وتنمية المصالح، ليس فقط للشعب الإسرائيلى، ولكن للناس بالمنطقة – إلا أهلها!
لقد أراد ترامب أن يبيض وجه نتنياهو الذى لم يستطع تحقيق بآلته العسكرية عبر الإبادة الجماعية ما يطمح إليه من تهجير سكان غزة. فجعل نتنياهو أول زواره فى البيت الأبيض، وفى حضوره، أطلق مبادرة إفراغ غزة من أهلها. ثم أكد على ذلك بكل صفاقة فى حضور ملك الأردن، حيث طرح رؤيته لأخذ «شريحة» من الأردن ومثلها من مصر، لكى تستوعب الأشخاص المهجرين. وبذلك، نجح تكتيك نتنياهو - ترامب، فى تحويل الاهتمام بتبعات إخفاق إسرائيل العسكرى، إلى التصدى لخطة تهجير سكان غزة. علما بأن هذه الخطة هى فشل أمريكى- إسرائيلى جديد. فهى تورط الولايات المتحدة فى المنطقة بعيدا عن تايوان التى من المفترض أنها المقصد الرئيسى للمصالح الأمريكية. كما أدت إلى استنفار القاهرة وعمان والرياض ضد سياسة التهجير، لاسيما وأن نتنياهو صرح فى واشنطن يوم 7 فبراير الجارى، بأن السعودية لديها ما يكفى من الأراضى لتزويد الشعب الفلسطينى بدولة، مطالبا بإقامة دولة للشعب الفلسطينى فى المملكة! ثم ما لبث نتنياهو - وترامب فى تخفيف هذه التصريحات لكى تستمر صفقة الرهائن، حيث يريد نتنياهو تمديد المرحلة الأولى من الصفقة، لكى يحصل على مزيد من الرهائن، ويراوغ لمنع إدخال معدات إزالة الدمار إلى غزة، بينما يريد ترامب الذى منع بمبادرته سقوط حكومة نتنياهو، أن يطول الحديث عن المبادرة لكى تصبح العنوان الجديد للشرق الأوسط. أو هكذا يأملون.