فى السابق كانت الأسفار بين حواضر الدول وسيلة لاكتشاف العالم، والتعرف على ثقافات مختلفة، واكتساب مهارات الاتصال مع صنوف من البشر شديدة التباين.. من هنا نشأت فلسفة ما للسفر من فوائد، ومن هنا كانت السير الذاتية التى زار أصحابها عددا كبيرا من البلاد، تحظى باهتمام جهات التوظيف المختلفة، على اعتبار أن خبرات السياحة فى الأرض، لا تقل أهمية عن خبرات العمل والدراسة والتفقه فى مختلف المسائل.
اليوم لم يعد السفر عبر القارات يحمل ذات الصفات، فقد تشابهت العواصم الكبرى على نحو بغيض، يقتل لذة الاندهاش بما هو جديد ومستغرب، ويجعل أدب الرحلات، إن كان ثمة بقية لهذا النوع المحتضر من الأدب، صفحات مكررة ترسم صورة باهتة تتشابه خطوطها وألوانها. ليس ثمة طرائف ومشاهدات تميز لندن عن طوكيو عن واشنطن أو الدار البيضاء..
كلها طبعات من ذات المصنف، تتفاوت فيها تكاليف التحضر ودرجة الازدحام والقدرة على تنظيمه، أما خلاف ذلك فلا فرق يذكر.
سلاسل المتاجر التى تشتهر بتقديم الوجبات السريعة والأحذية والملابس والإلكترونيات، تملأ الشوارع والميادين بذات الطابع واللافتات، واجهات المصارف، ومنافذ الصرافة وتحويل الأموال وماكينات الصراف الآلى.. كلها متشابهة. الشوارع تغص بالمركبات، والناس بينها يسيرون فى نظام رتيب، لا روح فيه يميز البشر عن قطعان الماشية أو مستعمرات النمل على أحسن تقدير.
• • •
صنعت العولمة نماذج بشرية مقولبة، فقد أعملت بيوت الأزياء أدواتها الدعائية لتسويق منتجات نمطية من الملابس. كذلك صنعت شركات السيارات منتجاتها بأذواق لا تعرف التميز، بقدر ما تعرف التوفير فى تكاليف الإنتاج. أطلقت العولمة سباقا محموما بين شعوب تتفاوت فى سرعاتها وأنماط معايشها وقيمها واهتماماتها، فأجبرت الغالبية العظمى من البشر على السير بسرعة أكثر الشعوب بؤسا وأقلهم استمتاعا بملذات الحياة. تلك التى تحول العمل فى ديدنها إلى هوس مريض، لا تعرف السكينة إليه سبيلا. الخطى التى يسير بها أهل نيويورك فى الشوارع اكتسبت عبر وسائل الإعلام وأفلام هوليوود دلالة على الجدية والسعى، وأصبح لزاما على من يسير فى تلك الشوارع أن يساير أهل المدينة فى إيقاع مشيتهم، وإلا أصابته سهام النقد والتوبيخ ولو كان صاحب عذر! بالطبع ليست كل المدن تشبه نيويورك، التى هى مضرب أمثال سكان الولايات المتحدة أنفسهم فى حدة الطباع والمزاج العكر، لكنها تعد اليوم أشبه بروما فى عصر الإمبراطورية الرومانية، ولا يمكن تجاهل ما تملكه من تأثير عميق على مختلف شعوب الأرض.
فى تلك المنظومة الجديدة تتزايد «المطالب» wants على حساب «الحاجات» needs وتلك المطالب تتزايد فيها مكونات الرفاهية لتتحول تدريجيا إلى ما يشبه الاحتياج بفعل الدعاية وأدوات الاقتصاد السلوكى المعروفة. حتى أصبح الهاتف الذكى من الأساسيات، وكذلك جهاز الميكروييف وأجهزة الحاسب الآلى.. ومن المعروف أن ميزانية أى أسرة رشيدة تتوزع على نمط 50:30:20 أى 50% للحاجات الأساسية من مسكن وملبس وغذاء.. و30% للمطالب التى منها ما هو ضرورى نسبيا كالسفر والترفيه والهواتف.. ومنها ما هو رفاهة زائدة، و20% للادخار... وبالتأكيد استطاعت آلات الإعلام والدعاية نقل الكثير من المنتجات من خانة المطالب إلى الحاجات، ومن خانة الرفاهية إلى الأساسيات وهو ما يشعرنا على الدوام بمزيد من الفقر مهما زادت ممتلكاتنا!.
وقد تجسدت إحدى تجليات العولمة المزعجة فى الاتحاد الأوروبى، الذى جمع شعوبا من دول غرب وشرق أوروبا فى نظام واحد وبعملة موحدة، تعكس تخلى تلك الدول عن جانب كبير من سيادتها النقدية لصالح ذلك الكيان الأكبر. حول الاتحاد الأوروبى شعوبا فقيرة «سعيدة» بوتيرة معايشها، إلى شعوب تمتلك الكثير من مقومات العصر وتقنياته وأدواته، لكنها صارت بائسة، مكبلة بالديون، لاهثة فى سباق محموم مع شعوب غنية، لها مفهومها المختلف عن السعادة، ولها نمط معيشة وثقافة لا تتقاطع تفاصيلها مع تلك التى ميزت الشعوب فقيرة الأدوات.
اليونان نموذج واقعى لهذا الاستنتاج، الشعب اليونانى كان شعبا مرحا يمكنه توفير «احتياجاته» بأسعار مناسبة بعملته التى تميز أبناء اليونان عن غيرهم، وتضعهم فى مضمارهم الخاص للتنافس الهادئ على الموارد المحدودة بالطبع، كدأب أية موارد نادرة. هذا الشعب الذى وجد نفسه فجأة يتعامل بعملة الاتحاد الأوروبى، يتنافس على المعروض من تلك العملة مع الماكينات الألمانية (الوصف الذى اشتهر به الشعب الألمانى) تعرض لأزمة اقتصادية طاحنة، لم تكن النجاة منها ممكنة إلا بندوب وتضحيات وتكاليف تحملها الشعب اليونانى وسائر دول الاتحاد الاوروبى، وفى مقدمتهم ألمانيا، حتى لا يسقط هذا الجسد الهجين، خاصة بعد ضربات متلاحقة تعرض لها، كان أشهرها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى أو ما عرف بـ«البريكست».
أزمة المديونية والتعثر اليونانى لم تكن على المستوى القومى وحسب، بل انسحبت بالضرورة لتصيب مختلف فئات المجتمع، فتحول معها الشعب الباش الراقص إلى نسخة شائهة من أهل برلين وسائر الحواضر الكبرى. التجهم ذاته والخطى السريعة العصبية، والحرص الشديد على جمع المال بأى ثمن.. بالتأكيد لم تزل البصمة الوراثية للشعب اليونانى كامنة فى مكان ما بداخلهم، ولكن شبق جمع الأموال يخنق كل متاع الحياة، ويضغط على نفسية اليونانيين لإذابة ما يتمتعون به فطرة من فروق فردية، لا ينبغى لها أن تذوب تحت أى ظرف.
• • •
إذا كانت الفروق الفردية ضرورية لتقدم الشعوب، فقد تلاحظ إهمالها بشدة فى العصور الوسطى، ويمكن ملاحظة أثر ذلك على مستوى التخلف وتراجع الوعى فى تلك العصور، باستثناء الدول التى انتشرت فيها الحضارة الإسلامية، التى تم تأسيسها على مراعاة الاختلاف بين الناس، وتقبله وهضمه داخل المجتمع الإسلامى، دون حاجة إلى تفتيش فى الهوية أو فرض أنماط موحدة على الشعوب التى حكمها المسلمون خلال تلك الحقبة الذهبية للحضارة الإسلامية.
ويعد العالم البيولوجى فرانسيس جولتون Galton أول من حاول دراسة الفروق الفردية على أسس عملية، وكان اهتمامه منصبا على المسائل الوراثية. وفى عام 1895 تم بلورة الفروق الفردية بشكل محدد على يد كل من بينيه Binet وهنرى Henri اللذين قاما بنشر مقال بعنوان «علم النفس الفردى» اتخذ كأساس لنظرية الفروق الفردية فى علم النفس. وفى عام 1900 صدر كتاب علم نفس الفروق الفردية للعالم شترن Stern ومنذ ذلك الحين تطور اهتمام علماء النفس والتربية بمسألة الفروق الفردية، وبتطوير طرق القياس وتجميع المعلومات عنها، حيث ظهرت الاختبارات العقلية للفرد والجماعة لقياس الذكاء والقدرات الخاصة والشخصية والميول والاتجاهات، وقد تلاحظ وجود الفروق الفردية فى الاستعدادات، والقدرات، والسمات، والذكاء.
لذا فليس من المقبول بداهة أن نحاول طمس تلك الفروق لصناعة نموذج واحد من الحضارة البشرية! ذلك النموذج الذى بدا مسيطرا على منطق الغرب المدافع عن إسرائيل فى هجماتها الوحشية على شعب فلسطين من المدنيين، بحجة أن تلك الدولة المستعمرة هى صاحبة نموذج حضارى مشابه لنموذج الولايات المتحدة الأمريكية! وقد عكست تصريحات وتلميحات وزير الخارجية الأمريكى «بلينكن» ذات المعنى أكثر من مرة.
• • •
الطبيعة البشرية غالبة. هذا يجعل الارتداد خلفا عن طريق العولمة deــglobalization تيارا يمينيا سائدا فى كثير من الدول، وفى مقدمتها الدول الراعية والمنشئة للعولمة بادئ الرأى. انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، واحتمال إعادة انتخابه مجددا، يعطى دلالة على قوة وغلبة هذا التيار. وقد كانت سياسات ترامب الحمائية والمعادية فى جانب منها للصين (المنافس الأكبر للولايات المتحدة) أحد أهم ملامح إدارته للبلاد. الميول الانفصالية لبعض الولايات ومنها تكساس صاحبة الثروة النفطية الأهم فى أمريكا، هى أيضا دليل على تصاعد مخاطر هذا التيار، لكنها تعطى مؤشرا على غلبة فطرة الاختلاف والتميز، المناهضة لفلسفة القولبة والتنميط، التى عكفت العولمة على صناعتها بدأب خلال أكثر عدة عقود.