لا يقتصر امتهان العقل والمعرفة والعلم اليوم فى مصر على إعلان «الاكتشافات والاختراعات الخارقة» أو على تغييب حقائق الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعتيم على قضايا الأمن القومى من مياه النيل إلى سيناء، بل يتجاوزهم إلى السياقات المرتبطة بفهم ظواهر السياسة وأبعادها وتطوراتها المحتملة.
يوميا، تخرج على الرأى العام مجموعات من «المفكرين» و«الخبراء» و«المحللين» و«ااستراتيجيين» ومن «أساتذة» للعلوم السياسية يعملون فى جامعات ومؤسسات بحثية (للأسف) لتلقن المصريات والمصريين أن «الحرب على الإرهاب» و«مواجهة العنف» لا تسمحان «بترف سيادة القانون أو ضمانات حقوق الإنسان والحريات»، وأن «واجبنا هو التنازل المؤقت عن بعض الحقوق والحريات لكى ينجو مركب الوطن». وبين العبارات النمطية هذه، تأتى اقتباسات من مقولات منسوبة إلى رئيس الجمهورية الفلانى ورئيس الوزراء العلانى والسياسيين المحنكين فى «أعتى الديمقراطيات» وهم يضحون على رءوس الأشهاد بالحقوق والحريات نظير الأمن والأمان. وامتهان العقل والمعرفة والعلم يتمثل هنا فى كون الخبرات المعاصرة الناجحة للقضاء على الإرهاب والعنف دوما ما ارتبطت بتطبيق حلول أمنية تلتزم سيادة القانون وضمانات الحقوق والحريات وتحول دون تورط الدولة ومؤسساتها وأجهزتها فى العنف الرسمى أو استخدام القوة المفرطة، وبمزج دقيق للحلول الأمنية مع الحلول السياسية والمجتمعية يمنع انتشار الكراهية والعقاب الجماعى وثنائية الفاشية القاتلة «من ليس معنا، فهو ضدنا». والامتهان يتمثل هنا فى كون الاقتباسات المتواتر توظيفها ليست بالحقيقية أو الكاملة، وفى كون أقل المتوقع من «المفكرين» و«الخبراء» و«المحللين» و«الاستراتيجيين» و«أساتذة العلوم السياسية» هو عدم التورط فى نشر الجهل أو ترويج الإفك.
يوميا، تخرج على المصريات والمصريين ذات المجموعات التى تسعى لتحتكر لذاتها الوطنية وتخون أمثالنا من المغردين خارج السرب لإدانتنا الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان والحريات خلال الأشهر الماضية ومطالبتنا بالتحقيق بها، لتلقنهم أن أهداف الاستقرار والسلم الأهلى والتقدم والرخاء ستتحقق «بقيادة المؤسسة العسكرية للبلاد لفترة استثنائية» تنهى بعدها دورها السياسى وتترك المجال للنخب الحزبية ولممتهنى السياسة للتنافس على مواقع السلطة التشريعية والتنفيذية وتداولها. وامتهان العقل والمعرفة والعلم يتمثل هنا فى أن المؤسسة العسكرية، والتى لا أشكك أبدا فى وطنيتها، تضار من تدخلها فى السياسة وشئون الحكم وتضرهما أيضا وتحدث بهما الكثير من التشوهات أبرزها ضعف المؤسسات المدنية (أى غير العسكرية والأمنية) وتهافت النخب الحزبية التى تظل محدودة الفعل والفاعلية وفاقدة لثقة الناس. والامتهان يتمثل هنا فى كون «الاستبداد الاستثنائى» و«الخروج المؤقت على الديمقراطية» هما صنو أوهام تنزع عنها الخبرات العالمية وخبرتنا المصرية (منذ خمسينيات القرن الماضى والى اليوم) المصداقية والمعقولية، شأنهما شأن وهم التداعيات الإيجابية لقبول «انتهاكات محدودة لحقوق الإنسان» أو «التخلى لفترة عن بعض الحقوق والحريات» أو «الصمت على شواهد العنف والقوة المفرطة فى فض الاعتصامات والتظاهرات وقمع المعارضين» أو «الإدانة الأحادية للمسئولية السياسية للإخوان عن الأحداث الراهنة» وتجاهل مسئولية الحكم.
يوميا، تخرج على المصريات والمصريين مجموعات «المفكرين» و«الخبراء» و«المحللين» و«الاستراتيجيين» و«أساتذة» العلوم السياسية لتقنعهم أن «البون شاسع بين ترشح العسكريين لرئاسة الدولة وبين عسكرة الدولة»، ويدللون على ذلك بوصول عسكريين إلى الرئاسة فى «ديمقراطيات مستقرة كالولايات المتحدة وفرنسا» وغيرهما، ويتهموننا بالتناقض والتحايل على الديمقراطية عندما نعترف أن هناك «رغبة شعبية» فى ترشح وزير الدفاع المشير عبدالفتاح السيسى للرئاسة ونحذر من خطر العسكرة المرتبط بذلك. وامتهان العقل والمعرفة والعلم يتمثل هنا فى حقيقة أن ترشح العسكريين للرئاسة فى مصر سيأتى فى سياق أوسع به وضعية استثنائية للمؤسسة العسكرية (فى تشريعاتها وتعيين وزير الدفاع واعتماد موازنتها والرقابة عليها) أقرتها النصوص الدستورية والقوانين، وبه هيمنة للمكون العسكرى ــ الأمنى على شئون البلاد والعباد، وبه غياب للمؤسسات المدنية والديمقراطية المستقرة، وهذه العناصر مجتمعة هى التى نجحت فى استيعاب رئاسة العسكريين فى الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما. والامتهان يتمثل هنا فى رمينا بالتناقض، ونحن نعلن تفهم الرغبة الشعبية فى ترشح وزير الدفاع وندرك أبعادها وننبه فى ذات الوقت بوازع وحيد هو المصلحة الوطنية والصالح العام وفى وجه حملات تخوين وتشويه وتشويش عاتية إلى أن ذلك قد يعنى المزيد من هيمنة المكون العسكرى ــ الأمنى والمزيد من الخروج على مسار تحول ديمقراطى.
لا يقتصر امتهان العقل والمعرفة والعلم على الإعلان عن «الاكتشافات والاختراعات الخارقة أو على تغييب الحقائق عن الناس، بل يضرب بعنف فرص فهم ظواهر السياسة واستقراء تطوراتها المحتملة ويباعد بين النقاش حول السياسة وبين الرشادة والوعى النقدى.