أصاب الصديق الكاتب عماد الدين حسين فى عموده بـ«الشروق» أمس الأول فى تتبع محاولات البعض إلصاق العيب بالحكومة التى تضم وزراء من خلفيات سياسية، والاحتفاء بالحكومة التى تضم مهنيين رفيعى المستوى أو ما يطلق عليهم «تكنوقراط».
الأصل فى الحكومة أن تكون سياسية، بمعنى أنها تأتى لتنفيذ سياسات عامة معينة على أساسها اختارها الناخب دون سواها. هذا ما يحدث فى الدول الديمقراطية التى عادة ما تكون التشكيلات الحكومية بها محصلة انتخابات عامة فاز فيها حزب أو ائتلاف يضم احزابا سياسية.
لم تعرف مصر هذا النمط من الحكومات طيلة عقود طويلة، لأنه لم توجد فيها انتخابات نزيهة أو تداول للسلطة يسمح بالتنافس بين البرامج الحزبية. فى عهد مبارك كان الوزراء يختارون من الحزب الوطنى أو من خارجه، ويوقعون على استمارة عضوية الحزب عقب اختيارهم لمواقع وزارية. لم يكن معظمهم من خلفيات سياسية، وكانوا أقرب إلى الموظفين الكبار فى جهاز الدولة. بمعنى أنهم يقضون معظم وقتهم فى قضايا إدارية وفنية تخص وزاراتهم، ولا تتعلق بالسياسات العامة أو باتخاذ موقف سياسى خلافا لما يقوم به الوزير فى الدول الديمقراطية. هذه هى الإشكالية، وقد ذكر لى وزير سابق فى إحدى حكومات مبارك أن كفاءة الوزير كانت تُقاس بقدراته على الإدارة، وليست لعب دور سياسى.
ما يقوم به الوزير فى مصر، هو ما يقوم به «وكيل الوزارة» فى الجهاز الإدارى فى أى دولة ديمقراطية. الوزير صاحب قرار سياسى، موقف سياسى، يبقى فى منصبه لسنوات، ويأتى غيره. أما وكيل الوزارة فهو الإدارى الملم بشئون العمل اليومى، يبقى فى موقعه مدة طويلة، وهناك دول مثل بريطانيا تنص فى قوانينها على ما يعرف بـ«حياد الخدمة المدنية»، بمعنى استقلال البيروقراطية عن السياسة. البيروقراطى يخدم سياسات السياسى أيا كان عمالا أو محافظين لا يهم هو منفذ، وليس صانع سياسة.
فى مصر، شأنها شأن كثير من الدول النامية، الوزير يدير أكثر ما يتخذ قرارات سياسية. من هنا يتميز الوزراء المحسوبون على جهاز الدولة، فهم الأكثر إلماما بالبيروقراطية ودهاليزها، ويتعثر الوزراء القادمون من خلفيات حزبية، خاصة إذا لم يتولوا مناصب تنفيذية فى حياتهم العملية.
تشكل هذه الحالة «أمرا واقعا»، لكنه ليس وضعا مثاليا، لا ينبغى أن يستمر لأنه يقوض الديمقراطية، ويجعل هناك انفصاما بين برلمان فيه أحزاب، وحكومة بها كبار الموظفين، أو التكنوقراط. السياسى ينبغى أن يشغل موقعا وزاريا، أما التكنوقراط فهم جزء من الهيكل الإدارى، أو الخبراء الاستشاريين. وإذا كان «التكنوقراط»، وبعضهم بالفعل متميز فى عمله، هم الذين يتصدون المشهد الوزارى الآن، فهو وضع مؤقت نتيجة غياب الحزب أو الائتلاف الحزبى المنتخب ديمقراطيا، والذى يحمل التفويض شعبيا لإدارة شئون الحكم، بكل ما تعنيه الكلمة من معان.
إننى استشعر فى أحيان كثيرة أن هناك خصاما يزداد اتساعا مع السياسة نتيجة تخبط أحوال الساسة والسياسيين خلال الفترة الماضية، والذى توج بحكم الإخوان المسلمين، لكن هذا ليس النموذج الذى يقاس عليه، وينبغى أن نتذكر أن غياب السياسة يعنى تقويض فرص الديمقراطية.