اعْوِجَاج - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اعْوِجَاج

نشر فى : الجمعة 5 أبريل 2019 - 11:30 م | آخر تحديث : الجمعة 5 أبريل 2019 - 11:30 م

يُوصَف الشخصُ بأنه "عاوج بوزه" كناية عن غضبٍ أو امتعاض واشمئزاز. لا وجود للبوز في المعاجم مرادفًا للفمّ أو الجزء الظاهر منه، وبغض النظر عن المعاني الأخرى المذكورة؛ فإن ضَمَّ الشفاه وعَوجها، لعلامة بارزة على عدم الرضاء. بعضُ الناس قادر على البَوْحِ بما في نفسِه دون أن ينطق لسانُه؛ رَفعةُ حاجِبَين أو تقطيبةُ جَبين، تفيان بالغرض، أما البعضُ الآخر فتكتسب ملامحه جُمودًا، لا تشِفّ عما يعتمل داخله، ولا تكشف أسراره. ثمَّة وجه كسطح الجليد؛ يعكس صورةَ الناظرَ فيه، ويخفي ما بأسفله، وآخر يجيش بالانفعالات؛ لا يستر عاطفةً، ولا يواري إحساسًا.
***
دَرَجَ كثير الناس على وَصْف العنيد الذي يأتي بسلوك غير مُرضٍ، ولا يستجيب لنُصح أو توجيه؛ بأنه يسوق العَوَج، والعَوج هنا في مَقام العِصيان، أما فعل السَّوْق؛ فيعكس النيَّة المُبيَّتة على المُضي في الطريق، بكامل عمدٍ وإدراك.
***
تذكر القواميسُ أن العَوَجَ انعطافٌ يصيب ما كان قائمًا فمالَ، واعوَجَّ الشيء أي فقد استقامته، فيُقال مثلًا إن في الشجرة عَوَجًا شديدًا، وإذا مالت النَخِيل على الماء لثقل حَمْلِها؛ وُصِفَت بأنها قد اعْوَجَّت، وإذا عَجِفَتْ الناقة فتقوَّس ظهرها، قيل إنها عَوْجاء. العَوَج بفتح العين، يصِفَ الميلَ في المَرْئيٍّ مِن الأشياء؛ أي كُلّ ما له جسم، أما العِوَج بكسر العين، فيصِفُ كُلَّ معنويّ لا تتسنى رؤيتُه؛ وإذًا فعَوَج الطريق زيغه، وعِوَج الخُلق فساده، والرجل الأَعْوَجُ هو سَيءُ المَعشَر.
***
قيل قديمًا: ”لا يستقيم الظلُّ والعود أعْوَج“، والقصد أن الأصلَ المَعيوب لا يُسفِر عن أثرٍ خالٍ مِن العيوب؛ فما الناتج عند عموم الناس إلا انعكاسٌ للمُعطى، وقد اشتهر عن الكلب مأثور شعبيّ شائع، يشير إلى عَوَج ذيله الذي لا يعتدل، ولا يستقيم، ولو جُعِلَ فيه قالبٌ، والمعنى أن الطباعَ الأصيلة في الشخص لا تتغير، مهما بُذِلت المحاولاتُ في سبيل تقويمها؛ فالعادة أن يتغلَّب الطبعُ على التطَبُّع. لا يخفى ما في القول الفائت مِن إهانة للمُشار إليه؛ إذ جرى العرفُ على أن يكون "الكلب" نعتًا للسُباب والتجريح، ومِن ثَمّ تكون الخصال المَقصودة مَثار ذمّ واستياء.
***
في ذكر الطباع والأصول، وما اعوَجَّ مِنها وتعذر إصلاحه، وما ظلَّ على السطح؛ مُحاكاةً تقبل التعديل والتغيير، أنشد الشاعر أبياتًا طريفة:
مَشَى الطاووسُ يومًا باعْوجاجٍ … فـقـلدَ شكـلَ مَشيتهِ بنوهُ
فقـالَ: عـلامَ تختـالونَ ؟ فقالوا: … بدأْتَ به، ونحنُ مقلدوهُ
فخـالِفْ سـيركَ المعوجَّ واعدلْ … فإنّا إن عـدلْتَ معـدلوه
أمـَا تـدري أبـانـا كـلُّ فـرع … يجاري بالخُطى من أدبوه؟!
وينشَــأُ ناشـئُ الفتيــانِ منـا … علـى ما كان عـوَّدَه أبـــوه

لا يمكن التغافُل عن الحكمةِ الراسخةِ التي تقابل هذه الأبياتَ، وتُوجزها باقتدار لا يخلو مِن سخرية؛ "إذا كان ربُّ البيتِ بالدفّ ضاربًا؛ فشيمةُ أهلِ بيتِه الرقصُ"؛ وما أكثر الدفوفَ والطُبول التي تقرع في أيامِنا هذه، وما أمهر الراقصين.
***
يعوَج اللسانُ مرات؛ فينطق الكلمات بنغماتٍ شاذة، تختلط فيها المُخرَجات وتغُمُّ على السامعين. بعضُ الناس تكتسي مُفرداتهم بلكنةٍ أجنبية، والبعضُ الآخر يتصنَّعها زهوًا ومُفاخرة، وآخرون يتوه منهم الكلامُ فيقطفون زهرةً مِن كُلّ بستان، ويصنعون بلغة الفن كولاج مِن مُختلَف اللُغات، ولا يتنزَّه مُعظمُنا عن نتفة مِن اعوِجَاج؛ فكثيرًا ما نسهو في الحديث، ولا نفرق بين التاء والطاء، والكاف والقاف، والذال والزاي والظاء، ومِن هذا الكثير.
***
يحتدم النقاشُ بين اثنين، ويغضِبُ أحدهما مِن أسلوب الآخر؛ فيلجأ للتهديد والوعيد: "اقف معوج واتكلم عِدل"، أي لا تهِمُّ هيئتُك بقدر ما تهمُّ كلمتُك، ولا بأس باعوِجَاج المَظهر، ما دام المَضمونُ مَقبولًا مُرضيًا. يبدو التفسير بريئًا لكن العبارة لا تحمل البراءة نفسها، فقد تغدو إيذانًا بالانتقال لمرحلةِ العِراك، وربما تكون نقطةَ النهايةِ في حديثٍ طال.
***
قِيل إن حواء خُلِقَت مِن ضلع آدم؛ وفي مَذمَّتها يُوصَم الضلع بأنه أعوَج، دلالةً على أصالة الاعوِجَاج في مَسلكِها، وتجذُّر الانحرافِ في فعلِها، والحقُّ أن الضلعَ مِن هذه الادعاءات بريءٌ؛ فكم مِن آدم فاسد، أعوج الخُلق، رديء السمات، وكم مِن حواء كحدّ السيفِ في استقامة مَبادئها ومَواقفها، وإذا كان الأمر بما وضع السالفون مِن حِكَم ومَآثر؛ فالردُّ مِن الجّنسِ ذاته، والمَثلُ النقيضُ يقول: "يخلق من ظهر العالم فاسد".
***
جلسةٌ طويلةٌ بلا حِراك، تمتد لساعاتٍ أمام شاشة مِن الشاشات، وتتكرر طقسًا يوميًا مِن طقوس الحياة؛ كفيلة بأن تصيب العمودَ الفقريّ بالاعوِجَاج. إساءةُ استخدام الأجسام، والضغطُ على العِظام، وفرضُ أوضاعٍ ثابتة تتجمَّد فيها العضلات، أمور لا تترك لنا فقط أوجاعَ الظهر المُزمِنة والأعناق، بل قد توجِع كذلك الأفكار، وتحيلها كتلًا مُتكلسة.
***
إذا اعوَج المنَطِق ومال، وصار بناؤه في انحراف لا يُرجَى مِنه شفاءٌ أو اعتدال، وإذا غابت عن أعمدته الاستقامةُ أو غُيّبَت لغرضٍ في الصدور؛ فسدت الحياةُ وفقدت معناها. لا يكاد يمُر يومٌ دون أن تضربَ معاولُ الاعوِجَاج أبنيتَنا الفِكريّة، ودون أن يخرجَ علينا مَن يُهيل الأتربةَ فوق ما تبقى مِن عقلٍ؛ فمَن يصفُ حالَ الانحدار بأنها عَظَمَةٌ واكتمال، ومَن يُصوّر المَظلَمَةَ عيدًا مُستدامًا، وفَرَحًا يغمُر النُفوسَ ويعمُّ الأركان، ومَن يُشيَّد مِن الغثاءِ عرشًا وتاجًا وصَولجان. ما بين مَيلٍ وانعطافٍ، فانحرافٍ واعوجاج، تتخلق ضمائرٌ مِن مَطاط، لا يثقلها حملٌ ولا يرهقها وزرٌ، إنما ينذر سوادُها بقُربِ الزوال.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات