الإفراط فى التفاهة.. قنبلة نووية - صحافة عربية - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 9:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإفراط فى التفاهة.. قنبلة نووية

نشر فى : الثلاثاء 5 أبريل 2022 - 7:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 5 أبريل 2022 - 7:14 م
نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب يوسف الحسن.. نعرض منه ما يلي.

نشر نجيب محفوظ روايته المسماة «ثرثرة فوق النيل» فى العام 1966، وكانت الرواية بمثابة جرس إنذار، يُحذّر من كارثة ستقع، وقد عبرت «ثرثرات» أبطال الرواية، عن عمق الرداءة السائدة، وعزلة المثقف الملتزم، وفراره إلى الثرثرة الفارغة والغيبوبة، حتى أصبحت حياته مجرد نكتة سمجة بفضل التفاهة.

قال لى صديق مثقف، وهو يذكرنى بتلك الرواية، وقد تحولت إلى فيلم سينمائى فيما بعد، وسألنى، فيما إذا كنت أتذكر، المنظر الأخير فى الفيلم، وأحد أبطاله يسير وسط الشارع، وهو يهتف بأعلى صوته، ويقول: «يا ناس فوقوا.. كفاية تفاهة وتحشيش».

قال لى، وهو يحاورنى، «إنه لم يعد قادرا على احتمال أى نص أدبى عميق، أو قراءة فكرة فلسفية».

لم يتوقف صاحبى عن الحديث، والتعبير عن حزنه ووجعه، أمام المشهد العام الذى يراه، مليئا بثقافة التفاهة، هنا وهناك، وفى أجزاء كثيرة من العالم.

ويتساءل: ماذا جرى، حتى أصبح للتفاهة نظامها وصناعتها وآلياتها ونجومها، وعوائدها المالية الخيالية. وقد اقتحمت حتى خصوصية الأفراد، من خلال سيطرة الصوت والصورة والثرثرة، وحضور عالم الاستعراض والفرجة، وتوسع صناعة الرموز الرخيصة فى قيمها وعطائها ومحتواها الردىء.

غادرنى مهموما، وعدت إلى نفسى، وفى لحظات التأمل والعزلة (نصف إجبارية)، واصلت البحث للانتهاء من مخطوطة كتاب أعمل على إنجازه منذ أكثر من عام، حول نفس أطروحة صاحبنا.
حسنا، إن الثقافات الرديئة تنتج نظمها التافهة، فى السياسة والأدب والاجتماع والفنون وغيرها.. حيث تُهمَّش قيمة الإنسان، وتفكك منظومات قيمية إنسانية عليا، لتحل محلها المنفعة والمتعة العابرة، والبهرجة والابتذال، ويصبح الشأن العام، فى ظل ثقافة التفاهة، مجرد تقنية إدارية، وليس منظومة قيم، وتنتشر الغوغائية السياسية، بما فيها من جاذبية وميل جماهيرى لها، وتنحدر قطاعات الفنون المختلفة، من سينما وغناء وموسيقى ومسرح ورواية، وتغزو المجتمعات أعراض التفاهة والعبث، والأنماط المعيشية المرذولة، والتى تسهم فى إفساد الذائقة الثقافية للناس، وتقاوم ثورة العقل والإبداع الفلسفى الإنسانى، والتجديد فى حقول الفكر والأيديولوجية والمعرفة والسياسة والحوار.

وفى ظل هذه البيئات الرديئة، يتحول التافهون إلى رموز، وبخاصة فى زمن تكنولوجيا الإعلام والتواصل الاجتماعى، وما أتاحته هذه الوسائط من إمكانيات غير محدودة للنشر والمشاركة والتأثير فى الثقافة والقيم والوعى، وجعلت من حمقى وتافهين ومهرجين مشاهير، وتجاوزت نسبة مشاهدتهم ومتابعتهم الملايين من الأفراد.

إن ملايين من «المشاهدات» والإعجاب، لا تعنى بالضرورة القيمة الأدبية أو الفكرية أو العلمية أو الإبداعية، وكم شاهدنا، كيف أدت «تغريدة» سياسية واحدة لتصنيف صاحبها بأنه «محلل سياسى، واستراتيجى أو خبير أو حتى فيلسوف».

تتمدد التفاهة، بشكل مطرد، باعتبار أنها تخدم أغراض السوق، وتراكم الأرباح، وفى وقت نمر فيه على خبر علمى، وكتاب فكرى عميق، مرور الكرام.
من المسئول عن إشاعة الرداءة والتفاهة، وتحولها إلى مناخ سائد جذاب؟ تبدأ خطوات النزول إلى «حفلة التفاهة» حينما تتدهور متطلبات الجودة والأداء الإبداعى، وتهتز القيم ويعم الفساد والتسيب الأخلاقى، ويُفتقد الإحساس بالانتماء، ويفر المثقف وصاحب الضمير المسئول.
تُشرعن التفاهة حينما يُستعان فى الأمور الجدية بتافهين اكتسبوا الشهرة، بسبب رداءتهم، وتُخصص ميزانيات ضخمة لإعلاناتهم، وتكون المحصلة تراكم سلوكيات رديئة، وانتشارها وإعادة إنتاجها.
وها نحن اليوم، نشهد كيف أصبحت الكتب العلمية والأدبية والفكرية قليلة الرواج، ولا تغطى حتى تكاليف نشرها، وصار (الهاشتاغ #) أهم وأقوى من الاستطلاع العلمى أو الميدانى، والكم أهم من الكيف، والديمقراطية مقدمة على الحرية والعدالة... إلخ.
حسنا، لنوقف التفاهة، بدءا من الوعى بهشاشتها، وبسخف وخداع ما تعده «مهما» أو أنه هو «ما يطلبه الجمهور».
إن معرفة التفاهة تحرر الإنسان من الأوهام والسذاجة والخداع، كما يمكن مواجهتها من خلال الارتقاء بالخطاب داخل النقاش العام فى المجتمع، إلى مستوى نهضوى وعقلانى وإنسانى، ورفع مستوى الذائقة الجمالية والقيمية لدى الأجيال الشابة، ورد الاعتبار لحب الحكمة والفضول المعرفى، ولنظم الجودة والإنتاجية وقيم الخير العام وعمران الأرض.
يقول الروائى الإسبانى كارلوس زافون فى روايته «ظل الريح»: «لن يُفنى العالم بسبب قنبلة نووية، كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط فى التفاهة، والتى ستحول الواقع إلى نكتة سخيفة».
التعليقات