قامُوس المُتقاعِسين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:51 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس المُتقاعِسين

نشر فى : الجمعة 5 أبريل 2024 - 7:20 م | آخر تحديث : الجمعة 5 أبريل 2024 - 7:20 م

صَوَّب الرَّجلُ المُضطجِع فى مقعدِه الوثير؛ ورقةً منبعجة نحو سَلة القمامة؛ لكنها أخطأت الطريقَ وسقطت أرضًا على مقربة منه. طالعها مليًا وبدا أنه يفكر فى ترك مجلسه والتقاطها ووضعها فى مكانها الطبيعى؛ إذ الصالة الواسعة نظيفة لا مجال لإرهاقها بما يتناثر عمدًا أو عفوًا. دقائقٌ مرَّت ولم يتحرَّك الرَّجلُ من مكانه. بدا جليًا أنه قد تقاعس عن الفكرة وفضَّل الراحةَ على بذلِ قليلِ الجَّهد.
• • •
المُتقاعِس فى معاجم اللغة العربية هو الشخصُ المُتهاوِن الذى يُقصِّر فى واجباته، والمُتقاعَس عنه بفتح العين هو المفعول به، أما المصدر فهو التقاعُس بضمِّ العَين، وإذا قيل تَقَاعَس الوَلدُ فى طلبِ العِلم فالمعنى أنه أهملَه واختار التكاسُل، وإذا قيل تقاعَس الرَّجلُ عن عملِه فقد تأخر فى أدائه وربما ماطَلَ، أما إذا تقاعَسَت الفَرَسُ فقد عَصَت صاحبَها وأبت أن تُطيع الأوامر، وقديمًا قال ابن الروميّ: خلّ الزمانَ إذا تقاعَسَ أو نَجَحْ.. واشْكُ الهُمومَ إلى المُدامَةِ والقَدَحْ.. واحفظ فؤادَك إن شربتَ ثلاثةً.. واحْذَر عليه أن يَطيرَ مِن الفَرحْ.
• • •
فى التقاعُس تجاهلٌ وتولٍ وإهمال، والحقُّ أن أغلبنا يتقاعس عن أفعال كثيرة؛ يُدرك أن عليه إتمامُها. بعضُ الناسِ يتقاعس عن الذَّهاب إلى الطبيب وإن اشتكى عرضًا أو أكثر، وبعضُ آخر يتقاعَس عن أداء واجباته الاجتماعية ويتنصَّل منها إلى أن يُصبحَ فى مَوضِع حَرَج، وبعضٌ ثالثٌ يتقاعَس عن تجديد أو استخراجِ مستنداتٍ وأوراقٍ ضروريَّة إلى أن تتَعطَّل مَصالحه أو يَغدو عُرضةً للمُجازَاة، وهناك أيضًا من يتقاعَس عن إصلاحِ أعطابٍ مَنزليَّة بسيطةٍ ويجدها مُهِمَّة مُزعِجة ثقيلة؛ إلى أن تتفاقم وتستفحِل، فيُضطر إلى الإسراع باستدعاء المُختصّين. غالبا ما يندم هؤلاءُ كلُّهم على تقاعُسِهم وتهاونِهم، ويُوبِّخون أنفسَهم على التوانى والتأجيل؛ إنما بعد فوات الأوان.
• • •
للمُتقاعِس دومًا حُجَجٌ ومُبرِّرات يُحاول أن يُجمِّل بها مَظهرَه ويجعله مُستساغًا مَقبولًا؛ لكن دفوعَه لا تكون فى كثير الأحيان مُقنِعةً؛ بل قد تؤدى إلى تشويه صُورتِه وجعلها محلَّ انتقاد، وإذ يُقال «عذرٌ أقبح من ذَنْب» فمأثور سَديد؛ إذ ما مِن شكٍّ أن التزامَ الصَّمتِ والكفَّ عن مُحاولاتِ التعليل؛ لأكرم فى كثيرِ المرَّاتِ من انتحالِ أعذارٍ تافهةٍ سخيفة، لا تشْفَع للمُتحامى فيها.
• • •
أبرز ما يدفع به المُتقاعِسُ فى مُواجَهة اللائمين أنْ ما باليدّ حِيلة؛ لكن الحيلةَ مَوجودةٌ ما وُجِد بنو آدم، وأن يعدمَ المَرءُ سُبُلَ الفعل المُناسبة؛ فإما عن اعتياده الاستسلامِ السَّريع، أو عدم رغبته فى إنجاز المَطلوب، أو عن خَيبة حقيقية وأصيلة؛ وكلها أسبابٌ لا تُغنى عند السؤال والمحاسبة.
• • •
يَحملُ التقاعُس فى باطنه روح التجاهُل والنُّكوصِ عن المُواجهة؛ يصمُّ السامع أذنيه ويُغمِض الرائى عينيه، ويمضى فيدعو الآخرين للتصرُّف واتخاذ الموقِف الذى لم يأخذْ هو، ولئن استجاب هؤلاء الآخرون زالت عنه مشاعر الذنب وبات فى تقاعُسِه هانئًا سعيدًا، أما إذا لم يَستجِبْ أحد؛ فقد صار الكلُّ فى المَذمَّة سواءً.
• • •
قد يكتسب الشخصُ المُتقاعس بطبعه بلادةً فى الرُّوح وإن أظهر النقيضَ؛ إذ يُدرك ولا شكَّ مقدارَ هَوانه، ويعلم يقينًا تبعاته، ولا ينفكُّ يتصَنَّع الحَيوِيَّة والخِفَّة مُداراةً لما فى أحشائه من أسن وركود، ولئن وَصَمه الناسُ بالتخاذُل وبالافتقار إلى الهِمَّة والإرادة؛ ما حرك ساكنًا.
• • •
ليس التقاعسُ بعجزٍ فى كثير الأحوال بل استسهالٌ وتراخ؛ فالأيسر دومًا أن يجلس الواحد منا مَكانه وأن يتجنَّبَ المَشقَّات، ولا شكَّ أن فى التَخَلّى عن المسئوليةِ إغراءٌ كبير، فإن وَجَدَ الواحدُ ما يَقيه وطأتها ويعطيه الراحةَ النفسيَّة؛ لجأ إليه على الفور ولم يلتفت للعواقب الوخيمة التى قد تلحق به.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات