لنفترض أنه تم التوصل إلى إيقاف الحرب فى سوريا، بأى صيغة كانت. الأمور لن تعود مع ذلك كما كانت من قبل، وخاصة، فى ما يخص علاقة المواطنين مع الدولة المركزية.
من ناحية، لن يستطيع الجيش النظامى ولا قوات المعارضة العسكرية فرض سيطرتهما بسرعة على كامل أراضى البلاد. ولن تستطيع أجهزة الأمن، حتى لو لم تتم إعادة هيكلتها، فرض سيطرتها بالطريقة التى كانت تقوم بها فى السابق، فالسلاح أصبح بيد الكثيرين ولأمد طويل. ولن يستطيع محافظ أو مسئول إدارى، مهما كان مستواه، فرض أوامره وقراراته، كما كان يفعل فى السابق، لا فى المناطق الخاضعة حاليا للسلطة القائمة ولا فى المناطق التى خرجت عنها منذ زمن. ولن يكون باستطاعة أى حكومة مركزية أن تفرض نفسها على أدق تفاصيل كل أنحاء البلاد، حتى لو كانت «جسم حكم انتقالى توافقى كامل الصلاحيات» كما نصت عليه وثيقة «جنيف 1».
أهالى الأحياء والبلدات والقرى نظموا أنفسهم منذ اندلاع الحرب وانحسار دور الدولة، وأضحى لديهم مجالس محلية تدير شئونهم المعاشية اليومية والإغاثية وغير ذلك. بل إن أجهزة الدولة الخدمية باتت تتعاون مع هذه المجالس، حتى لو كانت خارجة عن سلطة الدولة المركزية. ثم إن الكثير من الجمعيات المدنية بدأت تنشط فى كل مكان لمساعدة المنكوبين.
ربما يكمن هنا بالضبط نموذج سوريا المستقبل، بحيث يتطور مثل هذا الواقع كى يصبح نوعا من اللامركزية الإدارية، لا يدير فيه شئون المنطقة محافظ تعينه الحكومة المركزية، بل ذاك المجلس المحلى المنتخب، المستند إلى مجتمع مدنى نشط.
لكن فاعلية اللامركزية مرهونة بتطورها على مستوى أوسع من الحى أو البلدة، لتمارس دورها على مستوى محافظة أو منطقة وتشكل مركز ثقل وتفاوض فى وجه المركز، إن كان هذا المركز دمشق أو حلب أو... عينتاب! وهذا يعنى بشكل ما أن يتم استبدال مجالس المحافظات الحالية، التى لم يكن لها سوى دور استشارى، بمجالس منتخبة تأخذ هى سلطة المحافظ التنفيذية، بما فيها شئون إدارة جزء حقيقى من المالية... العامة، وهى التى تشمل المساعدات الخارجية وإعانات المنظمات الدولية التى تديرها اليوم جهات معارضة. هكذا قد تكمن أسس المشروع الوطنى لما بعد الحرب فى خلق نوع جديد من الدولة. حينها يكون دور الحكومة المركزية هو بالضبط خلق التوافق حول المنظومة الجامعة والأطر الوطنية وتحقيق العدالة فى إعادة التوزيع.
ليس هذا الكلام سابقا لأوانه. فالواقع الفعلى يشهد أشياء من هذا التصور.
وإذا ما تواجدت هذه الرؤية الشاملة والواقعية، يمكن طرح الأمور بشكل مختلف عن كيفية وقف الحرب ودولة القانون، وإعادة الإعمار وعودة المهجرين، وإطلاق عجلة الاقتصاد.. إلخ.
والخطوة الأولى تبقى امتلاك شجاعة وقف الحرب.