فى حب «سناء» - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 12:58 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى حب «سناء»

نشر فى : الخميس 5 مايو 2016 - 10:05 م | آخر تحديث : الخميس 5 مايو 2016 - 10:05 م
المناسبة جميلة، وبطلتها أجمل. شاهدت بسعادة فيلما وثائقيا مؤثرا عن الراحلة سناء جميل فى مركز الإبداع. استعدت مع ظهور سناء فى العمل الذى كتبت له السيناريو، وأخرجته «روجينا باسالى»، لحظات الصدق الخارقة، التى تصدر عن الفنانة والإنسانة الاستثنائية، سواء فى أدوارها أو حين تتكلم.

«الصدق» هو مفتاح سناء التى غادرتنا بالجسد فى يونيو من عام 2002، ولكنها تركت فى المسرح والتليفزيون والإذاعة والسينما أدوارا لا تنسى، وصل إلى معنى الفيلم كله رغم أنه اهتم أكثر بالجانب المعلوماتى، وكان يمكن أن يصنع دراما أقوى بكثير من معاناة فنانة كبيرة، وجدت تقديرا من الملايين، ولم يعترف أهلها أبدا بقيمة ما حققته حتى وفاتها.

«حكاية سناء» هو اسم الفيلم، ولكنها أيضا حكاية كثيرات من جيل سناء، وحكاية مهنة صعبة لا تقنع إلا بالعشق، وهى أيضا قصة حب جميلة بين سناء وزوجها لويس جريس، الذى اشترك فى تمويل الفيلم، وحضر ليحتفل بعد عرضه بعيد ميلاد زوجته الراحلة العظيمة.

بناء الفيلم جيد حيث يبدأ بمشهد تمثيلى لنقل سناء إلى المستشفى، ودخولها إلى حجرة العناية المركزة، وينتهى بالعودة إلى الحجرة حتى الوفاة والجنازة، ثم زيارة الزوج لويس لقبر سناء، وكأن الحياة بين قوسين كبيرين. تستحضر روجينا شهادات مجموعة من الذين عرفوا سناء: لويس جريس، مفيد فوزى، طارق الشناوى، مدير التصوير سمير فرج، المخرج شريف عرفة، سميحة أيوب، جميل راتب، فاروق الفيشاوى، بوسى، منى زكى، وتقطع الشهادات أجزاء ممثلة قليلة سواء فى الطفولة أو فى المستشفى أو لشقيق سناء، وأجزاء من أعمال سناء السينمائية والتليفزيونية والإذاعية والمسرحية، وأجزاء من حوار سناء الشهير مع مفيد فوزى فى برنامج خاص بعنوان «سيدة الإحساس»، ومجموعة صور فوتوغرافية للفنانة الكبيرة سواء عائلية كانت أم فنية، وعلى شريط الصوت تعليق بصوت ماجد الكدوانى، وموسيقى هيثم الخميسى التى تعتبر من أفضل عناصر الفيلم.

جزء صغير نسبيا تستأثر به فترة طفولتها لقلة المعلومات، أعتقد أن سناء نفسها فرضت هذا الغموض؛ لأن فى سنواتها الأولى، وفى علاقة أسرتها بها ما يؤلمها بشدة، رفيق عمره نفسه لم يستطع أن يحل لغز بعض علامات الاستفهام المعلقة، مثلا: لماذا أودعت وهى طفلة فى مدرسة داخلية ثم نسيها أهلها تماما؟! وكيف ظهر أخوها فجأة فى حياتها ثم صفعها ليفقدها السمع بعد أن التحقت بمعهد التمثيل؟ ربما كنا فى حاجة هنا إلى أن تذهب الكاميرا إلى مسقط رأس سناء (وهو بالمناسبة غير محدد فى الفيلم)، ولو حتى من باب تسجيل رأى أجيال جديدة لما حدث لفتاة موهوبة اسمها الأصلى ثريا عطا الله، لم تجد سوى النبذ والمقاطعة حتى آخر لحظة فى حياتها، يقول لويس جريس فى الفيلم: إنه انتظر ثلاثة أيام كاملة بعد وفاة زوجته، فربما ظهر قريب لسناء يشارك فى الجنازة، ولكن أحدا لم يظهر على الإطلاق.

أتصور أن الإضافة التى كان يمكن أن يقدمها الفيلم هى التحقيق فى عمق هذه المفارقة، ليس من المحتم أن يصل التحقيق إلى شىء، ولكن لابد من بذل الجهد فى هذا الاتجاه، وفى ربط الحكاية بزمنها، وبحال المرأة فى تلك الفترة، وبصورة المشخصاتية عموما فى هذه المرحلة.

بعد المدرسة الداخلية، انتقلت سناء للعيش مع خالتها فى القاهرة، وعن طريق صديق لها اسمه محمد سيد أحمد (ذكره الفيلم عرضا وبدون معلومات إضافية)، عرفت سناء أن هناك معهدا للتمثيل، فالتحقت به. لن نعرف الكثير عن زملاء دفعة سناء، ولكننا سنعرف أنها تدين بالفضل لزكى طليمات، مثل كل خريجى المعهد، وطليمات أيضا هو الذى منحها اسمها الفنى: «سناء جميل».

قدم الفيلم معاناة سناء أثناء الدراسة فى صورة قوية ومؤثرة، كانت تحصل على 6 جنيهات من المعهد، وهو مبلغ لتشجيع التحاق الهواة فيه، ولكن سناء كانت تحصل أيضا على 6 جنيهات أخرى من بيع مفارش جميلة تقوم بتطريزها، تشغل خيوطها بدأب فى أوقات الفراغ، وتطرز عليها اسمها بخط صغير، وكأنها تضع بصمتها على المفارش، مثلما ستضع بصمتها على أدوارها المهمة المقبلة.

امتزجت المعاناة المادية والنفسية معا: شقيقها أفقدها السمع، طردها من بيت خالتها، استضافها الراحل سعيد أبوبكر وزوجته لمدة ثلاثة أشهر، ثم وجدت شقة دور أرضى فى نفس البناية، التى تقيم فيها «نعيمة وصفى»، تأثرت كثيرا وأنا أشاهد سناء وهى تقول ببساطتها الآسرة إنها اشترت حلة وكنكة وملة سرير ووابور جاز، ولكن النقود نفدت، لم تستطع شراء مرتبة، فنامت فوق ملابسها، مما أصابها بالانزلاق الغضروفى، تدمع عينا سناء، فتدمع عينى.

الموهبة العظيمة لسناء حوصرت فى البداية فى أدوار صغيرة، حتى جاءت فرصتها الكبرى فى دور نفيسة فى فيلم «بداية ونهاية»، اعتذرت فاتن حمامة عن الدور، كانت سناء هى المرشحة الأولى، ولكن المخرج صلاح أبوسيف فكر أيضا فى نجمة مثل فاتن لدعم توزيع الفيلم، عندما عاد الدور إلى سناء أبدعت أحد أفضل الأدوار النسائية فى تاريخ الفيلم المصرى والعربى.

فى فيلم «حكاية سناء» كلام مهم عن أداء سناء كممثلة، جميل راتب يقول: إنه لم يرَ ممثلة تشبهها فى قوة الأداء، لا فى مصر ولا فى الخارج، مثلت معه فى باريس مسرحية لتوفيق الحكيم بعنوان «رقصة الموت» باللغة الفرنسية، المخرج شريف عرفة يقول إن سناء أعادت لقطة 14 مرة فى فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة»، وفى كل مرة كانت تستدعى الدموع الحقيقية، منى زكى تقول إن سناء توقف التصوير بنفسها إذا لم ترضِ عن أدائها، وذلك قبل أن يطلب المخرج الإعادة، سميحة أيوب تنكر المنافسة مع سناء؛ لأن لكل واحدة منهما أدوارها المختلفة، نشاهد سناء، وهى تسأل أسامة أنور عكاشة عن تفاصيل حول شخصية «فضة المعداوى» فى مسلسل «الراية البيضا»، تريد سناء أن تعرف ما إذا كانت فضة مسترجلة، فيرد أسامة بأنها فقط تتعامل بصرامة فى سوق يحكمه الرجال.

قدم الفيلم أيضا قصة حب سناء ولويس بصورة مفصلة، لم يكن لويس العائد من أمريكا يعرفها، فشاهد فيلمها «بداية ونهاية» لكى يستطيع أن يتكلم معها فى حفلة دعى إليها، سألته وهو يغادر: «معاك تلاتة تعريفة؟»، فأخرج من جيبه قرشين، فقالت له ببساطة: «خليهم معاك عشان تكلمنى بكرة فى التليفون»، جاء الزواج بعد ذلك، وبتشجيع من سناء، بينما كان لويس لا يمتلك إلا راتبه، الطريف أنه كان يعتقد أن سناء مسلمة، والأطرف أن عمال روز اليوسف، الذين أحضرهم لويس بالباص، هم الذين ملأوا قاعة الكنيسة لحضور عقد الزواج.

امتزج الحب بالصدق والبساطة، ما يقترب من واحد وأربعين عاما من الزواج، يحكى عنها لويس وكأنها حاضرة، هى فعلا حاضرة بأعمالها، بروحها المرحة التى تظهر فى الفيلم، برفضها التصنع ولو فى صورة إخفاء عمرها الحقيقى، بتشجيعها وحبها لزملائها، بصبرها على إعادات جميل راتب المتكررة، بكلامها الحماسى عن موهبة شيريهان، بتقديرها الاستثنائى لأحمد زكى، إنه الممثل الوحيد، كما قال لويس فى الفيلم، الذى طلبت منه سناء أن تعمل معه.

عندما عادت سناء لتكلمنا فى فيلمها، حضرت معها أشياء كثيرة جميلة، لم أقابلها مرة واحدة، ولكنى رأيت وراء قوتها الظاهرة هشاشة امرأة مظلومة، وضعفا إنسانيا لايريد أن يخرج إلا عندما تنكأ الجراح، يعترف لويس أنها تراجعت عن رأيها القديم بأنها لا تريد أطفالاً اكتفاء بالفن، قالت له قبل وفاتها: «كانت غلطانة».

لو كانت سناء ممثلة هوليوودية لصنعوا عن حياتها فيلما روائيا عظيما يفوز بأكبر الجوائز. ما زلت أعتقد أنها تستحق أفلاما وثائقيا متعددة لثراء تفاصيل حياتها، دون أن يقلل ذلك من جهد روجينا بسالى وفيلمها المؤثر والصادق.
هذا فيلم أنتج وصنع فى حب سناء، ومنْ الذى لا يحب سناء؟!
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات