نشرت جريدة الاتحاد الإماراتية مقالا للكاتب محمد عارف يتحدث فيها عن الذكرى الثلاثين لإطلاق التلسكوب الفضائى «هابل» وما أهداه لنا من ألبوم لصور الفضاء والنجوم والمجرات... جاء فيه ما يلى:
الاحتفالات هذا الشهر بمرور 30 عاما على إطلاق التلسكوب الفضائى «هابل» مناسبة كونية. وتلسكوب «هابل» يواصل بث صور الكون الذى يراه البشر لأول مرة فى التاريخ، كما لم يروه من قبل، وهو يرينا مجرات وغيوما سديمية ساحرة الجمال مضت عليها أزمان أسطورية، تُقّدرُ بمليارات الأعوام، ونرى بعضَها الآن وقد اختفى من الوجود. و«هابل» مثل ألبوم صور قديمة لعائلة توفى أعضاؤها منذ زمان. ويبثُ الرهبةَ سديمُ «العين الإلهية» الذى يشبه عينا جبارة تحدق بنا. وهو أقرب سديم للأرض، اتساعه سنتان ونصف السنة ضوئية، أى أكبر من المنظومة الشمسية. والسديم غيمة ثابتة، ويكتم الأنفاس منظر سديم «العنكبوت الذئبى» الذى يشبه ذئبا يفترش السماء كالعنكبوت.
وجعلنا «هابل» نرى دورة الكون الأبدية، فى ميلاد نجوم ووفاة نجوم تلد منها نجوم جديدة، وبواسطته رأينا مولد 3 آلاف نجمة فى عنقود نجوم اسمه «ويسترلند 2» تتألق فى كوكبة «كارينا». والعنقود فى حسابات الكون فتى جدا، عمره مليونا سنة فقط، ويضم بعض ألمع وأكبر نجوم مجرتنا وأشدها سخونة. وصورة السديم الأحمر، وشقيقه الصغير الأزرق جزء من غيمة «ماجلان» العملاقة فى مجرة «درب التبانة» التى تضم المنظومة الشمسية، بما فيها كرتنا الأرضية، وهى تؤرخ لأحداث وقَعت قبل 163 سنة ضوئية. وَزّعَ الصورة بالمناسبة «معهد علوم التسلكوب الفضائى» فى بالتيمور بالولايات المتحدة، الذى يشرف على إدارة «هابل» منذ عام 1990.
والتقط «هابل» عام 2002 صورة مجرّة «فرخ الضفدع» الحلزونية، وقد تَشّوّه شكلها الحلزونى بسبب معركة مع مجرّة قزمة، فامتد منها ذيل هائل طوله مئات الفراسخ الفضائية. وصار الذيل مناطق جديدة بالغة النشاط فى تشكيل النجوم، وتراجعت الصدمات عبر ذيل مجرّة «فرخ الضفدع» لكن بقى شكلها الحلزونى على حاله. وبواسطة «هابل» أمكننا «رؤية الكون بوضوح، كما لو كنا نراه بالعين المجردة، حيث نرى خلف مجرّة (فرخ الضفدع) كل نقطة مضيئة تؤشر إلى مجرّة أخرى. ويمكنك اختيار منطقة صغيرة منها وتأسيس علم جديد عظيم». ذكر ذلك رائد الفضاء «جون جرنسفيلد» الذى غامر بحياته ثلاث مرات فى التحليق إلى «هابل» لإصلاح عطل أصاب التلسكوب منذ تشغيله عام 1990.
و«كما لو كنا جالسين على مرتفع يحيط بنا الضباب من كل جانب، ونكاد لا نرى على بعد خطوتين من مواقع أقدامنا، ثم ينقشع الضباب وفجأة ونبدأ نرى الناس والكائنات والبيئة التى تحيط بنا على امتداد البصر». كتبتُ هذا فى صحيفة لندنية قبيل إطلاق تلسكوب «هابل» مطلع أبريل عام 1990. واستمر «هابل» نحو ثلاثة عقود يُرسل صور الكون المهيبة الجمال، جعلت الناس يرون لأول مرة أحداثا تقع على مسافة 63 ألف سنة ضوئية عن الأرض. وصور الكون التى يبثها «هابل» لوحات فنية ساحرة الجمال. ويمكن أن يتملاّها الآن أى شخص من بعيد فى موقع «وكالة الفضاء الأمريكية» (ناسا)، أو البحث عن Hubble بمحرك البحث «جوجل» فى الإنترنت.
وأُطلق اسم «هابل» على التلسكوب، تثمينا للفتوحات العلمية لعالم الفلك الأميركى «أدوين هابل» (1889ــ 1953)، وهو أبرز علماء الفلك فى القرن العشرين، ومؤسس علم فلك المجرات، والذى برهن على أن غيوم السديم هى مجرات بالأحرى. الإخفاق فى تشغيل مرآة تلسكوب «هابل» الرئيسة، بعد إطلاقه حوّل الحماس العالمى الملتهب إلى خيبة أمل مؤلمة، دفعت رواد الفضاء إلى المغامرة بالانطلاق بمكوكات فضائية لتصليح التلسكوب فى الفضاء المكشوف. وكانت تلك سنوات التشاؤم الفضائى العميق التى أعقبت انفجار «مكوك تشالينجر» ومقتل رواده السبعة. وصارت تحليقات فريق تصليح التلسكوب على متن المكوك «ديسكفرى» ملحمة فضائية كأفلام الخيال العلمى: تمتد ذراع آلية تشد «هابل» إلى منصة المكوك، تُصلحُ المرآة المعطوبة، وترفع التلسكوب أعلى من موقعه المكشوف. و«الكون كل شىء». يعرف ذلك الآن الناس أيضا، وليس الفلاسفة فقط.