كَبـَـسَ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كَبـَـسَ

نشر فى : الجمعة 5 مايو 2023 - 8:30 م | آخر تحديث : الجمعة 5 مايو 2023 - 8:30 م
تتابعت الدقاتُ على البابِ وسرى السؤالُ من فمٍ إلى أذُن؛ يستفهمُ عن الطارِق الذي حلَّ في الظَّهيرة؛ فلا هو مَدعوٌ للمُشاركة في الطعام الذي استقرَّ على المائدة، ولا هو مِن أهلِ البيت الذين عادوا من أشغالِهم مُرهقين، واستعدوا لإسكاتِ جُوعهم. نَظَرَ أخفُّهم حركةً من العَين السّحرية ثم صَاح: كَبسَة، ففهِم الآخرون على الفور أن ثمَّة مَن لا يُرجى في الحينِ حضوره ولا تستطابُ لقياه، والحقُّ أن الصيحة التي دوت في الأرجاء لا تُستَخدَم إلا إن كانت الزيارةُ مُزعجةً، لا تحظى بالترحابَ ولا تُمنى بالوِدّ والسُّرور، أما إن تمتَّع القادمُ بالمَحبَّة والقبول؛ فلا يُقال أبدًا إنه كَبَسَ على الناس.
• • •
يأتي الفعلُ كبَسَ في قواميس اللغة العربية بأكثرِ من معنى؛ يُقال كَبَسَ الزِرَّ أيّ ضَغطَ عليه، وكَبَس البِئرَ أيّ طمرها وأهالَ عليها التراب. الكابِسُ هو الفاعل، والمَفعولُ به مَكبوسٌ، وربما اشتققنا مِن الفعلِ كلمةَ "الكُّبس" بضم الكاف وتسكين الباء؛ كي نشيرَ بها إلى الجزءِ المَوجود بطَرف سِلك، يُرام توصيلُه بمصدَر كهرباء، والكلمةُ غير مُدَوَّنة بالمعاجم؛ لكننا نستخدمها بوَفرة.
• • •
في قاموسِ استعمالاتنا اليومِيَّة؛ قد يَحدث ما يدفعنا للقولِ بأن فلانًا كَبَسَ علانًا، ربما أحرَجه بجوابٍ صادِم، أو صدَّه بمَوقِف غير مُتوَقَّع. يجد المَكبوس نفسَه في وَضعٍ لا يُحسَد عليه، قد يَحمَر وجهُه وتتفصَّد من جَبينه حبَّاتُ العَرق؛ حتى ليتمنى أن تُشقَّ الأرضُ فتبلعه، أو يَقع ما يَصرِفُ عنه الأنظار.
• • •
إذا دَلَّك الواحد عضلاتِ جَسدِه بقوة؛ قيل إنه كبَّسه بتشديد الباء. بعضُ الناسِ يستمتعون بجلساتِ التدليك ويؤكدون أنها تُجدد نشاطَهم وتُعيد إليهم الحيويةَ والشَّباب، والبعضُ الآخر يَرى فيها رفاهةً وتزيُّدًا؛ فالمَرءُ يكفيه حمامٌ دافئٌ كي يستأنفَ ما بدأ ويَسترجِعَ كاملَ لياقته.
• • •
أحيانًا ما يَسهو سائقٌ ويَنحرِفُ بسيارتِه نحو آخر، وإذ ينزعجُ الناسُ فإنهم يتساءلون: ما له كابِس عليه؟ والقصد أنه اتخذ مَسارًا غير مُبرَّر، يُنبئ بحادثٍ وَشيك. الكابِسُ قد يكون في حالِ السَّهو والشُّرود، والمَكبوسُ قد لا تُسعِفه البديهةُ لتفادي الآتي، والحقُّ أننا اعتدنا السيرَ في مُنحنياتٍ وانحرافاتٍ لولَبيَّةٍ لا مَثيل لها، لا نتركُ بيننا وبين المُحيطين بنا سوى أشبار معدودة لا تكفي للنجاة، أما الخطوطُ البيضاءُ المُتقطِّعة؛ فلا تعني في أذهانِنا سوى زينة تُخففُ من سواد الطريق.
• • •
طالما ظننت أن المَكبَسَ مُجرد آلةٍ يدويةٍ أو كهربائية؛ تُستَخدم في ضَغطِ الأوراقِ وجَمعِها ودَمجِها، ثم اكتشفتُ بمَحضِ الصُّدفةِ أن له وظيفةً أخرى تبدو أكثرَ شعبيَّة وأهميَّة؛ فثمَّة مَكبَسٌ لصُنع الكَّحكِ والمَعمول، وغيرهِما مِن المَخبوزات التي تجذِبُ الأنوفَ وتفتَح الشَهية.
• • •
بين المُوروثاتِ القديمة التي قامت على التجرِبة العمليَّة، ثم تبيَّن أن لها مِن العِلمِ نَصيبًا؛ كَبسُ الجُرح المَفتوح بمَسحوقِ البُن. يَحوي البنُّ مادةً قابضةً فعَّالة، تُوقِف النزيفَ وتحقنُ الدماءَ، فإنْ تعرَّض واحد لقَطعٍ في جِلده، وكان برفقته مَن يعتقد في الطِبّ الشَعبيّ، ويُؤمن بالوصفاتِ التقليديَّة القديمة؛ لسارعَ إلى وَضع البنّ على الجُرح عوضًا عن الموادِ الكيميائيةِ المعروفة. النتيجةُ الفوريَّة حاسمةٌ ومَلحوظة؛ لكن انتقالَ الجراثيمِ وارد، والتوابع اللاحِقة قد لا تكون مَحمودة.
• • •
في كثيرِ الأعمالِ الدراميَّة، تقتربُ القوةُ الأمنيةُ من وَكرٍ يتخفَّى فيه بعضُ الخارجين على القانون، فيعدو مَن أُوكِلت إليه مُراقبة الطريقِ والمكان صائحًا: كَبسة. لا يُسفِر التحذير في العادةِ إلا عن معركةٍ تشتعلُ بين الطرفين، وتنتهي غالب الأوقاتِ بانتصار الطرفِ الذي يُفترض فيه الخير على هذا الذي يُحمَّل بعلاماتِ الشر، وفي الأفلامِ العربيةِ القديمةِ، تأتي الفرق المُسلَّحة لتكبِسَ على الأفرادِ المُجتمعين في سِرية، فتُحرز المَنشورات وتعتقلُ الحاضرين، بينما يَعلم المشاهدون بغضّ النظر عن الرسائلِ المُوجَّهة عبر الأثير؛ أين يقع أصحابُ الحقّ وأين يقفُ الآخرون.
• • •
الكَبسةُ أكلةٌ شهيرةٌ مَعروفة، أصولُها خليجيةٌ وأحيانًا ما يُطلق عليها "المَكبوس"؛ وتتكون مِن الأرزِ طويلِ الحَبَّة المَخلوط بالزبيب والمُكسّرات، إضافةً إلى لحومِ الضأن أو الماعز. هناك أيضًا الكّبسةُ السُّورية التي يُستخدَم فيها الدجاجُ بدلًا مِن اللحوم، وربما اكتسبت الأكلة بجنسياتها المُختلفة هذا المُسمَّى، لقدرتها الأكيدة على مُداهمة المَعِدة وإثقالها، وجَلب الإحساسِ بالشَبع التامِ للآكلين.
• • •
إذا باغت المَرء في نومِه حلمٌ عصيبٌ، فملأ كيانَه وأخافَه وأيقظَه مُنزعِجًا مَكروبًا؛ أدركَ أنه قد واجه كابوسًا. أصلُ الكلمةِ العربيّ هو الجاثوم، وهو حالٌ ضاغطةٌ تقع على صدرِ النائم، فتمنعه الحَرَكَة. لا تقتصر الكوابيسُ على وضعِ النَّومِ فقط، بل ثمَّة كوابيس نعيشها في الصحيان، هي ولا شكّ أمرُّ وأدهى؛ فلا إفاقة منها ولا مّهرب.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات