مُنذ أيامٍ قلائل اندلعت احتجاجاتٌ كُبرى في الولايات المُتحدة الأمريكية؛ بعدما ألقى شرطيٌّ أبيض برَجُلٍ داكنِ البَشرةِ على الأرضِ، وراح يضغط عنقَه دون توقُّف. لم يترك الشُرطيُّ الرَّجُلَ رغم الاستغاثاتِ اليائسةِ التي أطلقَها؛ حتى فاضَت روحُه وكفَّت الأنفاسُ في صدرِه، وانتشر الفيديو الذي سَجَّل الواقعةَ بتفصيلاتِها، وتناقله ملايين البَشر حول العالَم؛ دليلًا دامغًا على شراسةٍ وانحطاطٍ بلغا المَدى وجاوزاه.
***
فيما تحرَّك المُواطنون الأمريكيون وهبُّوا مِن هَولِ ما شاهدوا، وفيما لم يعُد بإمكان الأقلياتِ المُضطَهَدة تَحَمُّل المَزيد؛ لجأ الرئيسُ الأمريكيّ كعادةِ أصحابِ المَصالحِ مِن الطُغاةِ السُلطويين إلى استخدامِ الدين؛ مدَّ خطواتِه إلى الكنيسةِ ورفع بيدِه الإنجيل، مُتصورًا أنه سيردُّ عنه مُنتقديه، ويُسكِت أصواتَهم، ويمحو اعتراضاتهم، ويذكّرهم بأنه مَبعوثُ الإله الذي لا ينبغي أبدًا لومُه أو الوقوف في وَجهِه. لم يكُن مَسلك دونالد ترامب مُستغربًا على المُستوى الشخصيّ؛ بل هو تَطَورٌ طبيعيٌّ لما قام به على مدارِ سنوات، وعَدَّه المُحللون السياسيون أداءً مُبهرًا، مُتفَردًا، ومُنقطِع النظير.على المُستوى العام ما مِن جديد؛ كُلٌّ يبحث عن الأدوات التي يُمكِنه تحقيقُ الفَوز مِن خلالها؛ يُريد العنصُريُّ ما يُبرّر عنصريتَه وتَجبُّره، ويُريد الطاغيةُ ما يُشرّع طُغيانَه ويُقنّن جُورَه، وفي الأديانِ مَلجأٌ ومُتَّسَع لهذا وذاك.
***
الثورةُ حَقٌّ في مُواجَهةِ القَّهر، والمَقهُورون في بلدِ الحريَّةِ لا نهاية لهم، ويبدو أنَّ الحاكمَ الذي أمسكَ الكتابَ المُقدَّسَ يحتمي به مِن بَطشِ الغاضبين؛ يحمي بوجودِه هو ذاته ألوانًا مُتباينةً مِن الديكتاتورياتِ والأنظمة القَمعِيَّة في أركانِ الكَوْكَب، وأنماطًا مُتنوّعة مِن الحُكَّام الفاسدين الذين لا يتوانون عن خَنقِ شُعوبِهم، ولا يتورَّعون عن دَهسِ أعناقِ مُواطنِيهم بأحذيتِهم الثقيلةِ حتى المَمَات. وَجَدَ أشباهُ الشُرطيّ القاتل-على اختلافِ مَناصِبِهم وهُويَّاتِهم- في صعود إدارة الرئيسِ ترامب؛ فُرصةً لا تُعوَّض لمُمارسة ما عَنَّ لهم من مَفاسِد ومَظالِم وانتهاكات، بَدت أقربَ إلى الخيالِ مِنها إلى الحقيقة؛ لما لا وعلى مَقعد السُلطةِ العظمى التي تقود الأرضَ- أو التي درجت سلفًا على قيادتِها- مَن يحمي أفعالَهم بأفعالِه، ويُبررها بخطاباتِه، ويُعضدها بقراراته؟
***
يُكرّر المُهتمُّون بالشأنِ الأمريكيّ أن الجُمهوريين لا يتولون الحُكمَ إلا وحلَّت مَصائِب قَلَّ أن يَجود بمثلِها الزمانُ، والحَقُّ أنَّ مَصائِب مُتعدّدة وخُطوب مُتعاقِبة لم تجتَمِع في فترةٍ قصيرةٍ كتلك التي اجتمَعَت في عهدِ الرئيسِ الأمريكيّ الحالي؛ تفوُّقه واضح للعيان، وأثر مسلكِه المُفجِع باقٍ مُمتَد؛ لن يتأتَّى مَحوُه مستقبلًا ولا التكهُّن في الحاضرِ بمَداه.
***
في واقعةِ قتل فلويد مِن البشاعةِ ما يعتصِر الروحَ؛ لكنَّا اعتدنا مِثل هذه الأفعال فلم تعد تُحرّك فينا ساكنًا، والسؤالُ الذي يُعبّئ الصدورَ دون أن يغادرَها؛ إن كان السَّاكنُ قد غيَّبه المَوتُ، أو أنه سوف يتمَلمَل مِن رقاده ذات يوم، وتدبُّ في مَفاصِله الحياة.
***
على كُلّ حال؛ تتقاربُ الأشياءُ وتتضافر ويُكمِل بعضُها البعضَ، ويُسهِم الكَّونُ في تمامِها ويُوَفّر لنُضجِها واختمارِها ما يلزم مِن ظُروف؛ في هذا المعنى كَتَبَ باولو كويلهو ما نالَ انتشارًا واسِعًا مِن النُصوصِ، والحَقُّ أن الفكرةَ لامعةٌ، تحمِل في ذاتِها وجاهة، وتَتَجَسَّد في حيواتِنا حَيَّةً مَلمُوسة؛ فيما جِذرها خافٍ ومَنبعها غامضٌ غائِم.
***
في هذه اللحظةِ العابرةِ مِن التاريخ؛ تُقاسي الأرضُ بما عليها ومَن عليها ما يتعدَّى حدودَ العَقلِ ويَخترقُ المَنطِقَ ويَدفع بالناسِ إلى حوافِ الجُنون، وكأن العوامل كلها قد حضرت وتكاتفت تمهيدًا لتغيرات كبرى.
***
أوبئةٌ لم تخطُر على بال، وكائنات حية تنقرض وتفنى، وخرائطٌ تُزالُ في لَمحِ البَصر وأخرى تُصاغ، وتاريخٌ يُكتَبُ مِن جَديد على هوى أصحاب الدفتر ووفقًا لإرادتهم؛ فيما المتفرجون كثرٌ والعازفون عن التفرج أكثر، والمذهولون صامتون.
في كتابتي خاتمةَ المقالةِ هذه، أسمعُ صوتًا لا أصدّقه؛ أنظر مِن النافذةِ وأتحقَّقُ مِن هُطولِ الأمطار في أحد صباحات يونيو.