كعادة جماعة الإخوان المسلمين، جيل بعد جيل، فقد اعترف بعض أعضائها ــ بصفة فردية ــ بكثير من الاخطاء التى وقعوا فيها، قبل 30 يونيو عام 2013، وبعدها.
وكالعادة أيضا جاءت هذه الاعترافات مبتورة، كالقول بخطأ الترشح للرئاسة، دون أن يشرحوا كيف وأين أخطأوا فى حسبة الترشح؟ أو كيف دفعوا اليه، وهل كان الدفع من داخلهم أو من خارجهم؟ كذلك جاءت بعض الاعترافات مكابرة، كالقول إن المجتمع والنخبة والدولة العميقة لم يكونوا جاهزين لحكم الجماعة، ولا لتقبل رؤيتها، وكأن العيب فى كل أولئك، وليس فى الجماعة، ولا فى رؤيتها، أو كأنه لم يحدث من الإخوان وأنصارهم ما يقلق المجتمع والنخبة والدولة العميقة من اخلاف للوعود، وتنكر للاتفاقات، وتهديد لنمط حياة المواطنين اليومية، من مسلمين وغير مسلمين، وعدوانية وغطرسة فى الخطاب السياسى الصادر من أصغرهم قبل أكبرهم.
من الخطايا الكبرى التى لم يتوقف كثيرون من الإخوان ومن غيرهم عندها، ولكنها ــ فى نظرى ــ ام الخطايا بعد الاعلان الدستورى المشئوم فى نوفمبر 2012، تلك الدعوة الرعناء التى وجهها الرئيس الإخوانى محمد مرسى لأنصاره للتجمع عصر يوم الجمعة التالى لاعلانه الدستورى، أمام القصر الرئاسى، لدعم ذلك الاعلان، وليلقى فيهم كلمة يتحدى بها وبهم جميع المصريين المعارضين، ويهددهم.
أتذكر أننى بعد أن أفقت من صدمة الاعلان الدستورى بعض الشىء، روعت من دعوة الرئيس لأنصاره وحدهم، ولم يكن ذلك بالطبع اشفاقا عليه، أو على الجماعة، عملا بالمثل القائل إن قتيل يديه لا ينبغى البكاء عليه، ولكن اشفاقا على الوطن والشعب من خطر الانقسام بقيادة رئيس الجمهورية المنتخب نفسه، واشفاقا على التجربة الديمقراطية الوليدة المتعثرة.
كان مكمن الخطر الذى لم يدركه الرئيس الإخوانى ومستشاروه، ورؤساؤه فى مكتب الارشاد، أنه بهذه الدعوة، وبهذا الاستعراض للقوة من جانب أنصاره فقط يعلن التخلى عن الشرعية الدستورية، التى جاءت به إلى منصبه، ويعود إلى «الشرعية الثورية» كما يفهمها هو ومؤيدوه فقط، أى أنه قرر ادارة الصراع السياسى خارج مؤسسات الدولة، والاحتكام إلى الشارع، لفرض إرادته التى هى إرادة الجماعة، على الدولة نفسها، وعلى بقية المجتمع من ورائها، ومن ثم فهذه دعوة إلى المعارضين لخوض الصراع فى الشارع بدورهم، وكان هذا ما حدث بالضبط، دون أن يأخذ «الإخوان» فى حساباتهم أنهم ليسوا الأغلبية بحال من الاحوال، بل إنه لا يجوز دستوريا ولا أخلاقيا أن تفرض الأغلبية رأيها بهذه الطريقة الخارجة عن القانون، كما لم يأخذوا فى الحسبان أن الدولة العميقة، لن تقف على الحياد طويلا، إن لم تكن هى أصلا صاحبة مصلحة ورغبة فى اسقاطهم.
من موقعى كمواطن مصرى مهتم، ويخشى العواقب، حاولت الاتصال بمن ربطتنى بهم صداقة أو علاقة عمل من الإخوان أو من أصدقائهم، لاقناعهم بالتحرك بسرعة لاقناع مكتب الارشاد، والرئيس (المعزول) محمد مرسى بسحب دعوة الانصار، للتجمع أمام القصر الرئاسى، والغاء الحدث ككل، ولأقترح بدلا من ذلك أن يوجه الرجل بيانا لكل المصريين، يبرر فيه تراجعه عن دعوة أنصاره فقط، بأنه علم أن بعض معارضيه، وبعض أنصاره، استغلوا هذه الدعوة لتكريس الانقسام، الذى لايرضى به،بما أنه رئيس لكل المصريين، على أن يتعهد فى ذلك البيان بوقف العمل بالمواد المثيرة للسخط فى اعلانه الدستورى، كحل مؤقت للأزمة.
كان عدد من هؤلاء المستشارين الذين حاولت الاتصال بهم قد اعلنوا استقالاتهم احتجاجا على الاعلان الدستورى من حيث المبدأ، واحتجاجا على مباغتتهم به، وكذلك احتجاجا على عدم تقديم معلومات وأدلة حقيقية فى اجتماعاتهم مع الرئيس على «مؤامرة الحارة المزنوقة»، التى صدر الاعلان لاحباطها، ولذلك لم يرد أحد منهم على الاتصال، فأرسلت لكل منهم رسالة نصية على هاتفه بهذه المطالب والمقترحات، ولكنى أيضا لم أتلق ردا من أحد.
فيما بعد، وكان ما جرى قد جرى، التقيت ببعضهم، وسألتهم ألم تكونوا مدركين لمعنى وخطورة دعوة «مرسى» لأنصاره للاحتشاد، وحديثه اليهم وحدهم، على كيان الدولة، وعلى المجتمع، وعلى التجربة الديمقراطية؟ فأجابوا أنهم كانوا مدركين، وسألتهم ثانية، إذن كنتم توافقون على المعانى التى تضمنتها رسالتى إلى كل منكم؟ فأجابوا بالطبع كنا موافقين، فلماذا لم تحاولوا إقناعهم بالتراجع من هذا المنزلق؟ كان هذا هو السؤال المنطقى التالى، فأجابوا جميعهم بنفس الألفاظ: لم يكونوا يسمعون، ولم يبدو أنهم يدركون الفارق الجوهرى بين الشرعية الدستورية التى جاء بها محمد مرسى إلى الرئاسة، وبين «الشرعية الثورية» أو الاحتكام للشارع الذى يلجأ اليه الآن.
وفى غمرة الصراع ــ الذى كان قد انتقل إلى الشارع ــ حدث ان التقيت فى أحد المساجد عقب صلاة الجمعة، بقيادى سلفى متحالف مع الإخوان، وهو الآن فى تركيا، وكان يتأهب للذهاب إلى اعتصام رابعة العدوية، فسألته:أتظن أنكم سوف تعيدون مرسى إلى منصبه بما تفعلونه، فأجاب بأنه يذهب نصرة للشرعية، بغض النظر عن النجاح من عدمه، ولما تساءلت:أية شرعية؟! مضيفا أن الرئيس الإخوانى هو الذى قوض شرعيته، بدعوته لأنصاره فقط، والحديث اليهم وحدهم، لفرض إرادته على الجميع، وبالاحتكام إلى الشارع لاخضاع المجتمع والدولة، أجاب: بأنه لم يفكر فى هذه النقطة من قبل على هذا النحو، وأضاف «اننى « محق على مايبدو، ووعدنى بالتراجع، واقناع أصدقائه وزملائه بذلك، ولكن التيار كان أقوى منه، فجرفه هو نفسه.
*****************************
كنا قد اقتربنا من يونيو 2013، وتصادف أن كان موعدى مع السيد عمرو موسى صبيحة اليوم التالى للقائه مع المهندس خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين فى منزل المحامى والسياسى أيمن نور، وبمبادرة من نور نفسه، وكان هذا اللقاء قد اثار زوابع عديدة ضد عمرو موسى، وأذكر أننى سألته: ماذا كان انطباعك حول موقف جماعة الإخوان ككل فى الأزمة من أحاديث المهندس الشاطر، ولغة جسده، بغض النظر عن تفاصيل تلك الأحاديث، وما ورد فيها من أفكار ومقترحات؟ فأجاب عمرو موسى بكلمة واحدة جامعة مانعة قائلا: إنهم مهتزون.
فى اجتماع تال لعدد من السياسيين، ولم تكن حركة تمرد قد ظهرت بعد، أو لم تكن قد اكتسبت زخمها المعروف، كان المطروح للمناقشة هو أفكار من الجماعة يحملها وسطاء، منهم دبلوماسيون سابقون، ومنهم صحفيون يتصدرون شاشات التعبئة الشعبوية ضد الإخوان الآن، وكان الرأى الذى اتفق عليه فى النهاية ــ مع ادعائى شرف المشاركة فى بلورته ــ هو عدم التجاوب مع أية أفكار جزئية، ومطالبة الجماعة والرئيس بالاعتذار أولا عن مبادرتهم بالاحتكام لشارع، والاستقواء به، ثم دعوة الجماهير المعارضة للهدوء، بعد هذا الاعتذار، ثم مطالبة الجماعة بالغاء الاعلان الدستورى بعد فترة قصيرة من الهدوء العام، والعودة إلى مبدأ المشاركة لا المغالبة، من خلال صياغة الدستور الجديد (الدائم) بالتوافق، لكن الجماعة واصلت طريق التحدى، فلم يسع الآخرون إلا تشكيل جبهة الأنقاذ، وأظن أن البداية جرت أمامى عندما بادر السيد عمرو موسى بالاتصال بكل من الدكتور محمد أبو الغار، والدكتور محمد البرادعى.
ما جرى بعد ذلك مرورا ب 30 يونيو، و3 يوليو، وحتى اليوم، المعروف منه كثير، والمجهول أيضا، لكن خلاصة القول فى هذه النقطة، إن أسباب 30 يونيو صحيحة، ومشروعة وطنيا وديمقراطيا، ليس فقط بسبب مشروع التمكين والهيمنة، واخلاف ــ إن لم نقل خيانة ــ العهود والاتفاقات، ولكن أيضا بسبب مبادرتهم هم أنفسهم قبل أى أحد آخر بالخروج على فكرة الدولة، وتعبئة أنصارهم فى لحظة محددة، وأزمة محددة، لفرض مايريدون ليس على المجتمع فقط، ولكن على مؤسسات الدولة نفسها.
أما مجريات الأحداث بعد 30 يونيو، ومساراتها ومآلاتها فلها حديث آخر، ويكفى هنا القول إن التركيز على المآلات ينسى الأسباب، والتركيز على الأسباب ينسى المآلات، وهذا يعنى أن كل فريق يرى نصف الحقيقة فقط، وأنصاف الحقائق لاتعلم دروسا، ولاتبنى نظما، ولا تحمى أوطانا.