الطريق إلى المدينة الحدودية الأوكرانية كان خطيرا وغير معبّد، كادت السيارة أن تنقلب بنا غير مرة من فرط مناورة الحفر العميقة التى عبثا حاول السائق تفاديها! الطائرة الهليكوبتر كانت بديلا أشد خطورة نظرا لقرب المدينة من الحدود الروسية، وكان توتر الأوضاع السياسية فى إقليم القرم قد بلغ مداه... كنا فى طريقنا لمعاينة تكنولوجيا تركيز الخام بالفصل المغناطيسى على الطبيعة، وكان بصحبتى رئيسا شركتى الحديد والصلب، والنصر للكوك بينما انتظرنا الوزير السابق ومرافقاه فى العاصمة كييف.
توقفنا فى المقال السابق عند العرض الروسى لتطوير الحديد والصلب المصرية الذى رفضته لجنة البت، والذى كان قريبا من نموذج الشراكة التمويلية الذى اقترحته وأشرت إليه فى ذات المقال، ولكنه لا يتطابق مع شروط دعوة المشاركة المطروحة.
أما اللجنة التى تشكلت ــ على خلفية رفض العرض ــ بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 5016 لسنة 2019 بتاريخ 26/ 2 /2019 لدراسة أوضاع الشركة تحت إشراف المهندس شريف اسماعيل مساعد رئيس الجمهورية للمشروعات القومية، فقد كان لديها القدرة على الوصول إلى المعلومات من مصادرها وأتحنا لها ذلك قدر المستطاع. كنا نحضر اجتماعاتها مدعوين سواء السيد الوزير أو انا... وتوصّلت اللجنة إلى عدد من التوصيات والاستنتاجات لم تختلف كثيرا عما توصّلت إليه فرق العمل السابقة.
***
كان لابد من السير فى مسارى التطوير الآخرين لحين حسم القرار بخصوص تأهيل المصنع. شركة الحديد والصلب المصرية أكبر من أن تبقى طويلا فى وضع البين بين... مصاريف التشغيل كبيرة، وتكلفة الفحم وحدها يمكن أن تموّل تطوير شركات أخرى صغيرة، وهى بالكاد تغطيها إيرادات بيع المربعات! الرواتب الشهرية تقترب من ٥٠ مليون جنيه... أما فى حالة التوقف الجزئى لأنشطة الإنتاج، امتثالا للتقارير الفنية لرؤساء القطاعات، وانتظارا لقرار حاسم بخصوص عملية التأهيل، فقد كان من الممكن أن تنخفض معه تلك المصروفات بشكل ملحوظ، علما بأنه كان يتم تدبير معظمها سابقا من مستحقات شركات الكهرباء والغاز والكوك... فضلا عن الاقتراض من الشركة القابضة.
أما بالنسبة لمسار الإصلاح المالى للشركة وتخفيفها من أعباء المديونيات التاريخية والالتزامات القضائية وتحسين استغلال الأصول، فهو مسار التطوير الثالث الذى تركناه لختام هذه السلسلة من المقالات، ونلخّصه سريعا فيما يلى:
• فقد بلغ مجموع المديونيات لصالح وزارتى البترول والكهرباء ما يقرب من خمسة مليارات جنيه، وقد نجحنا فى التوافق مع الوزارتين على ملامح بروتوكول تسوية المديونيات مقابل الأراضى غير المستغلة، وذلك بعد النجاح فى تغيير نشاط استخدامها ليصبح سكنيا تجاريا متعدد الأغراض، حتى يرتفع تقييم الأراضى ويحسن استغلالها فى محيطها السكنى المزدحم بالأرواح. وقد تم توقيع أول بروتوكول بعد التوافق على قطع الأراضى المناسبة نهاية ديسمبر 2018 وتلا ذلك توقيع آخر.
• كما تم توقيع اتفاقية تسوية التزامات قضائية بأحكام نهائية مع بنك مصر وصل مجموعها إلى ما يقرب من 70 مليون دولار بمبلغ تسوية 750 مليون جنيه مصر فقط، نصفها تم سداده بمبادلة قطعة أرض غير مستغلة ونصفها من أسهم الحديد والصلب المملوكة للقابضة (والتى للعلم تنطوى على حقوق ملكية سالبة وكانت قيمتها السوقية عند التسوية أكثر من ضعف قيمتها قبيل قرار التصفية).
• ورغم الصعوبات التى اعترضت بروتوكول التسوية مع بنك مصر، والاختلاف على تقييم الأراضى، فقد تمت التسوية بعد الاحتكام إلى مقيمين عقاريين قدروا متوسط سعر المتر بما يزيد على 15 ألف جم فى بعض المواقع.
• لولا التسوية مع بنك مصر لأمكن للبنك الحجز على الشركة بموجب الحكم القضائى، ولتوقفت كل مساعى التطوير التى كنا نخوضها بما فيها التصرف فى الأصول غير المستغلة بغرض تسوية المديونيات.
• كان من الضرورى أن يرتفع مخصص القضايا فى القوائم المالية للشركة إلى ما يزيد على مليار جنيه إذا ما أخذ فى الاعتبار سعر الصرف عند رفع الدعوى وسعر الصرف عند النطق بالحكم... ولو تم ذلك لتحقق للشركة أرباح تزيد على 500 مليون جنيه فى العام المالى المنصرم لدى رد المخصص بفعل تسوية النزاع القضائى مع بنك مصر. وقد تم تصعيد تلك المسألة بالتعاون والتفاهم مع المستشار الجليل رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات كما سبق التنويه فى المقال الأول. وعلى أية حال فقد ساهمت تلك التسوية فى خفض خسائر الشركة رغم الجائحة بنحو من 54% عن العام السابق.
• كذلك تم ترشيد استهلاكات الكهرباء والغاز الطبيعى بأرض المصنع إلى ما يقرب من 50% من الاستهلاكات السابقة فى بعض الأشهر، مع مزيد من الالتزام بالسداد للاستهلاكات الدورية.
• كما تم تخفيض مديونية الحديد والصلب لدى شركة النصر للكوك الشقيقة بما يقرب من 100 مليون جنيه. مع التزام نسبى بالسداد من قبل الحديد والصلب ورقابة الشركة القابضة. تجدر الإشارة إلى أن تأخر الحديد والصلب عن السداد يعنى عدم توفير سيولة لشركة الكوك لاستيراد الفحم الحجرى، ومن ثم عدم إنتاج الكوك وتوقّف البطاريات وتعريضها لمخاطر التدمير!.
• وقد تضمّن هذا المسار استغلال الأصول غير المستغلة ومنها رصيد الخردة الذى تم توقيع عقد بيع له مع شركة حديد المصريين (المملوكة بحصة حاكمة من إحدى الجهات السيادية الوطنية) على ضوء تقديرات سابقة لرصيد الخردة تزيد على 300 ألف طن (بخلاف جبل التراب وخردة الزهر).
• التقديرات الواردة سواء فى مكاتبات رسمية لرؤساء الشركة السابقين أو إعلانات الجرائد أو عقود موقعة أو دراسات جدوى من شركة MCI لمشروع إنشاء مصنع حديد تسليح (ورد فيه تقدير الخردة بنحو 400 ألف طن فى ديسمبر 2017 وبنيت عليه مناقصة تم إلغاؤها فيما بعد) ظهرت بعدها تقديرات حديثة لرصيد الخردة المتاح على الأرض تخالف كل ما سبق بنسبة لا تزيد على 10% من التقديرات السابقة، الأمر الذى تم إحالته فور اكتشافه للنيابة العامة والرقابة الإدارية، مع السعى لإجراء تقديرات جديدة بالتعاون مع جهاز الخدمة الوطنية وخبراء جيولوجيين مستقلين.
• عملية البيع تمت بالفعل عن طريق أكبر مزايدة شفافة فى العالم، وهى متوسط أسعار الإغلاق اليومية لأجود أصناف الخردة فى أهم بورصات المعادن. ونجحنا بالمفاوضات تحميل شركة حديد المصريين بتكلفة إضافية عبارة عن رسوم إدارية اعتادت شركة الحديد والصلب تحميل سعر الطن بها! ورفضت شركة كبرى أخرى هذا الشرط أثناء التفاوض. بل وتحمّلت حديد المصريين بتكاليف النقل والتى كانت الشركة الأخرى ترفض تحمّلها نظرا لقرب موانئ استيراد الخردة من مصانعها، مما يجعل خردة حلوان أقل جاذبية.
• تحركت كل إمكانيات الشركة لتحضير الخردة ولمست الحماس على الأرض بنفسى، وكان العمال فى سعادة كبيرة لأنهم ينظفون مصنعهم لأول مرة منذ سنوات من تلال من الخردة كثيرا ما تعرضت للسلب والنهب على مدار السنوات.
***
فى الختام لابد أن نقر بأن أى عملية للتطوير والتغيير عملية مؤلمة، تعبث بكثير من التوازنات القائمة والمصالح المحققة. لم تفتر تلك الحقيقة من عزمنا على معاقبة المخطئ وإثابة المجيد. كانت هناك نماذج رائعة فى التفانى والإخلاص والأمانة، وهناك نماذج أخرى للتبديد وتحصيل المنافع إلى درجة الانقضاض على وجبات النادى الرياضى للشركة من قبل من لا نحسبهم فى حاجة إلى ذلك!...
اليوم تدرس الشركة القابضة عرضا أوكرانيا للتطوير، هى ذاتها نفس الشركة التى وقّعت معها عقد تركيز الخام وصناعة المكورات من خام الحديد بالواحات البحرية فى يونيو 2020. العرض الأوكرانى متى لقى قبولا فليس من المستبعد أن يتم إعادة الشركة من وضع التصفية، وهو قرار سهل من الجمعية العامة لشركة الحديد والصلب المصرية تحت التصفية.