مَـــــدَّة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مَـــــدَّة

نشر فى : الجمعة 5 أغسطس 2022 - 7:10 م | آخر تحديث : الجمعة 5 أغسطس 2022 - 7:10 م

استقرَّت اللافتةُ الضخمةُ على البوَّابةِ تُبشِّر الداخلين بحفلٍ يُقام في النادي عما قريب؛ غرضُه الترفيه عن الأعضاءِ وأسرِهم. ظهرَت في العِباراتِ المُنمَّقة همزاتٌ كثيرةٌ مُوزَّعةٌ بكرمٍ وسخاء؛ منها ما اعتلى الألِفَ وما قبع أسفلَها وما اتخذ من طرفِ الياءِ مُستقَرًا، وكلُّها دون استثناء قد أخطأت مَوْضِعَها؛ وكأن الخطَّاطَ نثرها اعتباطًا ليُزيِّن الكتابةَ، ويُضفي عليها جديةً وحصافة. لم تكُن الهمزةُ بتجلياتِها سقطةً وحيدةً؛ فقد لحقَت المَدَّةُ بكلماتٍ لا مَدَّ فيها ولا تطويل.   

• • •

في أحوالٍ كثيرةٍ، تنقلبُ المَدَّةُ على حرفِ الألفِ إلى هَمزَةٍ صريحةٍ والعكس أيضًا يحدث، وفي أحوال أكثر تختفي كلتاهما، أو تقع إحداهما في غير مَحَلّها فتكتسبُ الكلمةُ معنى جديدًا بيد كاتبها؛ والأمثلة وفيرة لا يستعصي تمييزها على قارئٍ لم يزَل بقواعدٍ تعلمناها في الصِغَر مُلِمًّا مُحيطًا.

• • • 

 

المَدَّة في قواميس اللغة العربية تشير إلى حركة تكلّل الهمزةَ فتبسطها وتطيلُ نطقَها، ويظهر أثرُها خلال القراءةِ واضحًا مَسموعًا، أما الفعل مدد فيتجلَّى على أرضِ الواقعِ مُجسَّدًا مَلموسًا. المَدَّةٌ على مُفردة "آمال"، تقابلها مَدَّةُ ساقين على الرمال، ومدَّةٌ أخرى قد تعقُبها مَسرَّةٌ إذ يقول شخصٌ لرفيقِه: مُدَّ يدَّك، داعيًا إياه لمُشاركتِه الطعام. ربما تكون القَوْلةُ جادةً مَعنية، أو مَحضَ مُجامَلةٍ غير مَقصودة، والحدُّ الفاصلُ يتوقَّف على خبرةِ أحدِهما بطبيعةِ الآخر، وعلى السياقِ الذي يجمعهما.

• • •

مَدُّ اليدِّ يشير بعض الأحيان إلى فعلٍ امتنع ذكره؛ ربما مدَّها الواحد بالضَربِ والاعتداءِ، أو مدَّها ليأخذَ ما ليس له خلسَةً، وقد يمدُّها تسولًا أو طلبًا لمُساعدةٍ غير مُستحقَّة. لا ضرورة بالطبع لأن تكون الأفعالُ مُزعجةً أو مُؤذيةً ما ارتبطت بالأيدي؛ فلربما مُدَّت اليدُّ واشتدَّت القبضةُ لانتشال غَريقِ، أو لإنقاذِ شخصٍ سَقطَ في عَثرة.

• • •

عبر أزمنةٍ طويلة مُدَّت خطوطُ السكَّكِ الحديديَّة وشبكاتُ الطُرقِ، كما شُقَّت الأنفاقُ والمَمرَّات وشُيّدَت الجُسور؛ أمورٌ من لوازم الحضارة، ونتاجٌ لتطوُّر الحياةِ وتقدمها على وجه البسيطةِ، وإن كان الأمر في بداياته مُذهلًا يدعو إلى الانبهار والإعجاب، فقد صار مع التقدُّم العلميّ الهائلِ عاديًا لا يُذكَر بالمرَّة، ولم يعد الناسُ ينظرون إليه كمُعجِزةٍ كونيَّة أو نفحةٍ جاءت بها الأقَّدار. 

• • •

جرت العادة بالأقوى أن يمُدَّ نفوذه فيدين له الآخرون بالخضوع، وبالدول الكبرى أن تمُدَّ جيوشَها وعدتها فتستعمر الأضعف منها وتستنزف خيرات الأرض ومواردها، ثم تبين أن السيطرة لا تتطلب دومًا مدادًا من البشر المدعمين بالعتاد؛ إنما سلاح الاستثمار قادر مع التحايل وطرق مواطن الاحتياج على أن يفيَ بالمطلوب، وأن يكفيَ الأطرافَ كلها شرَّ القتال، فإن بغتْ دولةٌ على أخرى كما في حال روسيا وأوكرانيا؛ كانت الأهداف معقدة والحسابات مركبة والغرض أبعد مما قد يرى المراقبون.

• • •

المَدُّ على باطن القدمين عقابٌ قديم، درجَ شيوخُ الكتاتيب على استخدامه فيما شاهدنا مِن أعمالٍ درامية، وقد أقرته بعضُ المدارسِ فيما مضى كأسلوب فعال للتقويم والتهذيب. كان المَدَّ أيضًا جزءًا من تدريباتِ اللياقةِ اليومية؛ يزعق مسئولُ النشاط البدنيّ: ثني مدّ، ليقوم التلامذةُ في التو بأداءِ التمارين المعروفة، فإن تقاعسَ أحدهم انتقلَ المَدُّ من طرفيهِ العلويَّين إلى السُفليَّين، إلى أن يتعظَ ويفيء إلى رشدِه. 

• • •

إذا مَدَّ المرءُ حبالَ الوِدّ؛ فالقصد وصلٌ وتعارفٌ فائتلاف، وإذا مَدَّ شِباكَه؛ فإشارة إلى فخّ نَسَجه بإحكام، ورَبَضَ مُنتظرًا أن تعلقَ به الغَنيمة. في الحالةِ الأولى تتقدَّم النوايا الطيبةُ وتتنحَّى الخبيثةُ، وفي الثانيةِ تكمن أصولُ الخداعِ والمَكرِ والتمويه.  

• • •

مّدُّ الخطّ على استقامته يصلُ بالمرءِ غالب الأحيانِ إلى استنتاجاتٍ سَليمة؛ فمُعطيات مُتوالية مُتراتبة يُمكن أن تمثّل مَسرحَ قياسٍ وبُرهان، يتكرَّر أثرها ويمضي ما على مِنوالِها متخذًا المسارِ ذاته، ويُمكن في إطارها وبقليل من الجهدِ استلهامُ مَحطَّات التوقف والوصول.

• • •

رغم الحرصِ واتخاذِ أسبابِ الحَيطة وأماراتِ الحذر؛ لا يسلمُ الأمرُ مِن ارتكاب خطأ، خاصةً والخُطوطُ المَدودةُ في أيامِنا هذه لم تعُد صَلبة مُستقيمَةٌ، بل تلبَّسها الاعوجاجُ واعترتها الليونةُ، وباتت في حُكم المتاهات.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات