انتابنى بعض الشعور بالخجل وأنا أدخل القاعة الكبيرة، فالأنوار كلها مضاءة والمكان مكتظ بالزوار وفى الفضاء من حولى طاقة تكاد تكون ملموسة. عند الباب وقفت العائلة تستقبل الضيوف، بينما تجمع الناس خارج القاعة وعند مدخلها بحثا عن وجوه مألوفة وكراسى شاغرة. ترتفع الأيادى للسلام من بعيد، تقترب الوجوه للسلام من قريب، يتبادل الناس بضع كلمات أو أحاديث كاملة، تختلط السياسة بتفاصيل إجازة الصيف والاستعداد لموسم المدارس. الحدث كبير والحضور متنوع.
***
قد يكون هذا مجلس عزاء آخر شخص كبير من عصر مضى، كبير بالفعل والعقل والنضال السياسى، كبير بالتأثير على سردية حقبة كاملة من الحياة السياسية المصرية، وقد يكون تأثيره الإنسانى على من عرفه يضاهى بأهميته تأثيره على الفضاء السياسى.
هو ليس أى مناضل كبير، هو مثقف لم يخرج عن معايير أخلاقية صارمة وضعها لنفسه فى بداية المشوار. هو شخص لا يمكن أن يختلف اثنان ممن عاصروه وعاصروا عمله على نزاهته. لكنه أيضا إنسان عاش حياته مستمتعا بالدنيا من حوله حتى آخر لحظة، فقال ابنه يوم رحل «أنا راضى وممتن له»، بإشارة منه أنه، ورغم افتقاده لوالده منذ أول لحظة، إلا أنه راضٍ بقرار والده الذهاب، قبل أن يقسو عليه الزمن وتخونه صحته أكثر.
***
فى مجلس العزاء، ورغم اتشاح معظم من حضر باللون الأسود، فرضت روح الرجل نفسها على المكان، فتشكلت دوائر نقاش بين الأصدقاء والزملاء والأقارب، وسلم الخصوم السياسيون على بعض برقى، والتقت الصديقات بعض إجازة الصيف فحكين حكايات عمرها شهر وشهران.
أعترف أننى لم أرَ فى حياتى فى مصر، وهى البلد التى تبنتنى وأطلقت فيها جذورى الجديدة، لم أرَ محفلا كهذا من قبل بحيث تنوع الحضور. لقد جمعت علاقة ما كل من حضر بالراحل وبعائلته قطعا، وجمعهم حبهم وتقديرهم للراحل ولعائلته، إنما بالنسبة لمشاهد دخيل على الساحة السياسية والثقافية المصرية مثلى، فالخليط الذى رأيته فى القاعة مذهل. تساءلت عن بعض التقاطعات التى بدت لى مستحيلة، سواء بسبب الاختلافات السياسية أو الدينية أو حتى الأخلاقية، وها هم يجلسون جميعا فى هذا المكان الذى كان يمكن أن يبدو بسهولة أنه مناسبة اجتماعية ثقافية سياسية، وليس مجلس عزاء.
***
أعترف أننى أفكر كثيرا بالموت وما حوله، ليس بسبب تشاؤم أو سوداوية لدى إنما لأننى أتساءل دوما عم يبقى من الإنسان وعم يهم أثناء وجوده على الأرض. أذكر لوحة على مدخل الجامعة الأمريكية فى بيروت، نقشها من شيد البوابة الرئيسية فى القرن التاسع عشر تقول «أن تمنح لهم الحياة، وأن يعيشوها بوفرة» أنا أفكر بالجملة تلك منذ كنت طالبة هناك منذ سنوات بعيدة. ما معنى أن تعاش الحياة بوفرة؟ ما معنى أن تعاش «بالطول وبالعرض» كما نقول باللهجة الشامية؟
أنظر فى وجوه من حضر مجلس العزاء وأرى الجواب أمامى: أن يترك شخص هذا الإرث الغنى من العلاقات، أن تكون علاقات مبنية على أفكار ونشاطات مختلفة، أن يكون حجر الأساس فيها احترام لما مثله هذا الرجل على مدى ستين عاما أو أكثر من العمل العام فى بلده وفق أسس رأى هو ومن أحاط به أن بإمكانها أن تتقدم بالإنسان وبالمجتمع فيزدهرا معا وليس كل على حدة.
***
أحاول أن أتخيل مجلس عزاء سوف يقام بعد ثلاثين أو أربعين سنة: كيف يمكن أن يجمع وقتها أشخاصا هم اليوم خصوم سياسيون وأعداء لدودون فى المجال العام؟ كيف يمكن أن تقدم إعلامية لامعة اليوم العزاء بعد ثلاثين عاما فى شخص ربما تكون قد تسببت فى سجنه؟ كيف ستتداخل السياسة والثقافة مع الإعلام والعمل الحقوقى لينتج عنها مجلس عزاء يشبه ذلك الذى أقيم هذا الأسبوع؟ لا أظن أنه ممكن فى ظل الاستقطاب الذى يخيم على البلد والمنطقة والنفوس فى السنوات الأخيرة.
أحزن فعلا لاختفاء المساحة التى استطاعت أن تفرز تجمعا كذلك الذى حضر مجلس العزاء. أحزن لعدم إمكانية جمع من جاء اليوم فى أى مناسبة أخرى، إذ لم يعد هنالك أرضية مشتركة بين الكثيرين منهم. أحزن لأننى أتخيل مجالس عزاء كثيرة سوف تقام بعد ثلاثين سنة وتجمع أشخاصا متشابهين إلى حد كبير كل مرة، بما أننا انتقلنا اليوم فى مصر وفى العالم عموما إلى حيوات سياسية ذات الزى الموحد والكلام الموحد. وها هو مجلس عزاء لرجل رحل وهو يبدأ عقده التاسع أتى ليذكرنا بأن الاختلاف السياسى مصدر قوة وغنى للمجتمع، وأن الاحترام والعمل الصادق لا بد أن يخلق ديناميات لا تنبت فى فضاء سياسى جاف.
***
أن يعيش الحياة بوفرة هو ما طبقه الرجل حتى يومه الأخير، وها هو مجلس عزائه يشهد على وفرة قلبه وعلى سعة صدره ووزن عقله، هو عاشها بوفرة ورحل بوفرة وجمع الناس من بعده بوفرة، من اليسار إلى اليمين. وداعا أستاذ حسين، سأحتفظ فى ذهنى بصورتك وأنت تؤدى دور الجد فى مناسبات اجتماعية وعائلية رأيت فيها تجمهر الناس من حولك كبارا وصغارا، فقد عشت فعلا الحياة بوفرة.