تداعيات رحيل السبسى على الانتخابات التونسيّة - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تداعيات رحيل السبسى على الانتخابات التونسيّة

نشر فى : الخميس 5 سبتمبر 2019 - 8:50 م | آخر تحديث : الخميس 5 سبتمبر 2019 - 8:50 م

نشر مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «توفيق المدينى».. نعرض منه ما يلى:

بسبب خذلانهم من طرف السياسيّين الفاعلين، وصراعاتهم وجدالاتهم وانقساماتهم التى لم تنتهِ ولم تفضِ إلى شيء يُذكر، أَثبت التونسيّون أنّهم شعب يعرف كيف يتّحد ويُظهِر رباطة جأش فى الأزمات والكوارث الوطنيّة الكبيرة التى تحلّ بالبلاد، وهو ما أظهرته الجنازة الوطنيّة الاستثنائيّة للرئيس الراحل محمّد الباجى قايد السبسى. وفيما كانت بعض الدول العربيّة متخوّفة من أن تَدخل تونس فى عالَم، تفرّدت تونس بعمليّة الانتقال السلس للسلطة من داخل مؤسّسات الدولة، ووفق منصوصات الدستور.
وتولّى رئيس البرلمان التونسى السيّد محمّد الناصر رئاسة الجمهوريّة، وأدّى اليمين الدستوريّة سويعات فحسب بعد إعلان رئاسة الجمهوريّة خبر الوفاة، ليكون الرئيس السادس للجمهوريّة التونسيّة لمدّة أقصاها 90 يوما، وهو ما يُقِيمُ الدليل، دونما أيّ شكّ، على صلابة المَسار الديمقراطى فى تونس، وتماسُك مؤسّسات الدولة الدستوريّة، التى باتت ترفض الانقلابات والتوريث والمُغامرات للاستيلاء على الحُكم.
وكان رئيس الجمهوريّة المؤقّت محمّد الناصر قريبا أيضًا ممّن أسْهَمُوا فى بناء دولة الاستقلال، ولاسيّما الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس الراحل الباجى قايد السبسى، وكانوا حينها يُسَمُّونَه «مُهندس النظام الاجتماعى فى تونس»، نظرا لتقلّده فى مُناسبات عديدة مَنصب وزير الشئون الاجتماعيّة ولخبرته وصَولاته وجَولاته فى هذا المجال.

الوجه الديمقراطيّ للبورقيبيّة
شَيَّدَ بورقيبة الدولة المدنيّة الوحيدة فى العالَم العربى، فيما أَخفقت الأيديولوجيّات الشموليّة الأخرى، فضلا عن إقامة بورقيبة مشروعا اجتماعيّا حداثيّا وتنمويّا، يقوم على تَحْرِيرِ المرأة التونسيّة، ونَشْرِ التعليم الديمقراطى، ومُحَارَبَةِ الفقر، وتَحْقِيق ِالضمان الصحّى. وقاد هذا التطوّر المُفرط لدولة الوصاية البورقيبيّة فى الوقت عينه إلى غياب فَضَاءٍ عَامّ مُحَدَّدٍ تحديدا مُتَمَيّزا، ومُجَهَّزا بقواعده الخاصّة وممثّليه. ولمّا كانت دولة الوصاية هذه تشكِّل وحدة مع جهازها وبيروقراطيّتها وغير مفصولة عن المجتمع، فقد عجزت عن أن تكون التعبير المباشر عن الكليّة العينيّة، كليّة المجتمع والشعب.
تَمَرَّدَ الرئيس السبسى على نِظام والده الروحى الحبيب بورقيبة، حين انشقّ رمزيّا عنه فى نصّ استقالة شهير سنة 1970 فى جريدة «لوموند» الفرنسيّة، عندما كان سفيرا لتونس فى باريس. وفى المؤتمر الثامن للحزب الاشتراكى الدستورى المُنعقد فى مدينة المنستير فى العام 1971، حَقَّقَ الجناح الذى كان يُنَادِى باللّيبراليّة الاقتصاديّة واللّيبراليّة السياسيّة فى آن واحدٍ، الأغلبيّة فى المؤتمر، وتَمَثَّلَ هذا الجناح فى أحمد المستيرى والباهى الأدغم والباجى قايد السبسى، والحبيب بولعراس، فَتَدَّخَلَ بورقيبة شخصيّا، وألغى انتخابات المؤتمر، وحسمَ الصراع لمصلحة الجناح المتصلّب الذى كان يقوده محمّد الصيّاح مدير الحزب سابقا ــ وقاد ذلك إلى تصفية جناح المستيرى.
ومع ذلك فإنّ عددا كبيرا من المؤرّخين التونسيّين يتجاهلون أنَّ الباجى قايد السبسى كان قائد الجناح الديمقراطى داخل النظام البورقيبى عينه، والرجل الذى وضع كلّ إمكانيّاته الماليّة على ذمّة الحركة الديمقراطيّة الناشئة، فأسَّس مجلّة «ديمقراطيّة» الناطقة بالفرنسيّة، وكان قريبا من مجموعة «الرأى» ورابطة حقوق الإنسان وحركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين.
ولم يعُد الباجى قايد السبسى إلى الحكومة إلّا بعد أكثر من عشر سنوات وبعد اعتراف الزعيم بورقيبة بالتعدديّة الحزبيّة فى العام 1981. وكان الرئيس الراحل وزيرا شبه دائم فى حكومات الحبيب بورقيبة، وفى عهد حُكم زين العابدين بن على، عُيّن فى فترة أولى رئيسا للّجنة السّياسيّة والشّئون الخارجيّة ثم رئيسا لمجلس النوّاب. ومع سقوط النظام الديكتاتورى فى 14 يناير 2011، أجمع عليه «الثوّار» ليكون رجل «المرحلة الانتقاليّة» من الثورة إلى «النظام الجديد» الذى اكتسب مع انتخابه رئيسا للجمهوريّة الثانية.
انطلاقا من هذا الإرث البورقيبى، عمل الباجى قائد السبسى على تأسيس حزب جديد بعدما سيطرت الترويكا الحاكِمة سابقا بقيادة حركة النهضة الإسلاميّة على مقاليد السلطة فى تونس عقب الانتخابات التى جرت فى 23 أكتوبر 2011. ونجح الباجى قايد السبسى فى أن يقدِّم نفسه كـ «أملٍ للخلاص والتغيير» عبر تجميعه فى «حزب نداء تونس» أطيافا سياسيّة وفكريّة عديدة.

رحيل الباجى وتداعياته على الانتخابات
بعد وفاة الرئيس الباجى قايد السبسى، أعلنت «الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات» عن تعديل موعد الانتخابات الرئاسيّة، إذ قرّرت إجراء الانتخابات الرئاسيّة فى 15 سبتمبر 2019 بدلا من 17 نوفمبر.. مع عدم تغيير مواعيد الانتخابات التشريعيّة، التى ستُجرى فى موعدها المقرَّر سلفًا يوم 6 أكتوبر المُقبل.
لا شكّ أنّ تقديم موعد الانتخابات الرئاسيّة على موعد الانتخابات التشريعيّة، ربّما يمثّل إشكالا إذا عرفنا أنّ النّظام السياسى الجديد، الذى أسّسه الباجى قايد السبسى وراشد الغنّوشى وكرَّسه دستور 2014 تتوزَّع فيه السلطة التنفيذيّة بين طرفَين، رئيسى الجمهوريّة والحكومة، مع صلاحيّات أوسع للثانى، وهو المُتسبِّب الرئيس فى الأزمة التى تعيشها تونس فى الوقت الحاضر.
قبل وفاة الرئيس الباجى، كانت أغلبيّة الكتل الانتخابيّة الكبيرة فى البرلمان (كتلة حزب النهضة، وكتلة حزب تحيا تونس، وكتلة حزب نداء تونس، وكتلة حركة مشروع تونس، والكتلة الديمقراطيّة) تُصِرُّ على ألّا تُعْلِنَ عن اسم مُرَشَّحِهَا للانتخابات الرئاسيّة على أساس أَنْ تَخْتَبِرَ قوّتها فى الانتخابات التشريعيّة، وتَعرف حجمها بالضبط، وتتدارَس مع مَن ستتحالف ومع مَن ستقف، ومَن ستدعم فى الانتخابات الرئاسيّة التى كانت ستجرى دورتها الأولى فى 17 نوفمبر المقبل، حتّى يكون «رئيسها»، ويكون بالتالى مُتطابقا مع توجّهاتها، سواء كان منها حليفا «مضمونا» أم حتّى حليف حسابات.
الآن تغيّرت المُعطيات، وتغيّرت معها حسابات كلّ الأحزاب تقريبا بلا استثناء، ومنذ يوم الثانى من أغسطس 2019، ستفصح كلّ الأحزاب عن مرشّحها للانتخابات الرئاسيّة، لأنّه لم يعُد هناك مجال لإخفاء النوايا، ولم يعُد بالإمكان التخفّى وراء نَوع من «التعفّف» الذى جعلَ من أهمّ الأحزاب التونسيّة لا تعلن إلى الآن عن أسماء مرشّحيها.
ومن تداعيات رحيل الباجى قايد السبسى على الانتخابات أنّ موضوع التعديلات التى طرحت على قانون الانتخابات، والتى تهدف إلى إقصاء عدد من الأطراف السياسيّة، إذ إنّ القانون الجديد يمنع ترشّح أيّ شخص عمل فى جمعيّة أو منظّمة خيريّة لمدّة عام، إلى جانب أولئك الذين يمتلكون قنوات تلفزيونيّة تقوم بالدعاية السياسيّة، هذا القانون الجديد لم يصدر عن المحكمة الدستوريّة، بل عن الهيئة المؤقّتة لمُراقبةِ دستوريّة مشروعات القوانين.
ولعلّ أكبر دليل على أهميّة هذه المَحكمة أنّ القضيّة الحاليّة والإشكاليّات المطروحة حول عدم توقيع الرئيس الراحل السبسى على هذا القانون الجديد هى من المسائل التى لا بدّ أن تحسم فيها هذه المحكمة الدستوريّة. وكلّ ما يحدث اليوم من فوضى ومن ارتباكات بعد رفض الرئيس ختم القانون الانتخابى الجديد، إنّما هو بسبب غياب المَحكمة الدستوريّة وهى الفيصل فى مثل هذه «الإشكاليّات الدستوريّة».
وطالما أنّ رئيس الجمهوريّة لم يختم النصّ، فإنّه لا يُمكن اعتباره قانونا، وكلّ قراءة مخالفة لذلك تدخل فى إطار العبث وخارجة عن أحكام الدستور.

لماذا ترشَّح الغنّوشى للانتخابات التشريعيّة؟
فى ضوء احتدام الأزمة السياسيّة فى تونس، أعلن الرئيس التونسى الراحل السبسى عن نهاية علاقة التوافق التى كانت تجمعه بحركة النهضة. وبعد نهاية التوافق بين الشيخَين السبسى والغنّوشى، أصبحت «حركة النهضة» مؤيّدة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد، فى إطار توافقها مع حزبه الجديد «تحيا تونس».
وخلال السنتَين الأخيرتَين، غيَّر زعيم «حركة النهضة»، الشيخ راشد الغنّوشى من «اللّوك»، إذ أصبح يلبس اللّباس الافرنجيّ وربطة العنق، وعمل على إبعاد التهمة التى لاصقت حركة النهضة والمتمثِّلة بعلاقتها بحركة الإخوان المُسلمين، وأن يدّعى أنّه مع نقْل الإسلام إلى عالَم الحداثة ومَيله إلى بناء الدولة المدنيّة عبر الفصل بين الدَعويّ والسياسيّ، وأن يقَدِّمَ نفسه داخليّا وخارجيّا أمام الدول الغربيّة على أنَّه يمثِّل حركة تحوَّلت من حزبٍ عقائدى قائم على أيديولوجيا الإسلام السياسى إلى حزبٍ سياسى مَدنى مُحافظ، غايته استقطاب نصف الشعب التونسى أو أكثر.
لقد تفاجأت «حركة النهضة» فى الآونة الأخيرة بتصاعُد الخطابات المُناهضة لها من قبل قيادات بارزة فى مشروع الشاهد الجديد، ولاحَظت أنّ خطاب التنصّل من فكرة التوافُق والتحالُف معها هو الطّاغى أيضا على خطاب المشروع الجديد، فالشراكة فى الحُكم مع النهضة بالنسبة إلى قيادات مشروع الشاهد سببها إكراهات سياسيّة لا قناعات وتوجّهات استراتيجيّة.
هذا الإخفاق هو الذى دعا الشيخ راشد الغنّوشى وفريقه المقرَّب إلى تغيير استراتيجيّة التقدّم إلى التونسيّين. فبدلا من الترشّح إلى الانتخابات الرئاسيّة التى تبدو نتائجها غير مضمونة، حرصت حركة النهضة على الدفع برئيسها راشد الغنّوشى إلى الترشّح للانتخابات التشريعيّة على رأس قائمة تونس الأولى لحركة النهضة، ليُحقِّق الأهداف التالية:

أولا: التحوّل من زعيمٍ لم يُنتخب إلّا داخل التنظيم الإسلامى إلى قائد له مشروعيّة الانتخاب الشعبى.
ثانيا: إبقاء سيطرة «حركة النهضة» على مجلس نوّاب الشعب والسلطة التشريعيّة صاحبة الصلاحيّات الأوسع فى النّظام السياسى التونسى الجديد بعد الثورة، ولاسيّما أنّ حركة النهضة بدأت تستشعر خطورة أزمة النظام السياسى الحالى الذى باتت تَصِفه قوى سياسيّة ديمقراطيّة عدّة بالهجين والشاذّ، وتجرى المُطالَبة بتغييره إلى نظامٍ سياسى رئاسى معدَّل.
ثالثا: وصول الغنّوشى إلى رئاسة البرلمان التونسى لكى يتمتّع بالحصانة البرلمانيّة عبر التفاوُض مع حزب الشاهد.
رابعا: فى ضوء المؤتمر القادم لحركة النهضة، لن يستطيع راشد الغنّوشى أن يبقى رئيسا للحزب، بحُكم عامل السنّ، والقانون الأساسى للحزب الذى يؤمن بالتداول على قيادته. لذا حرصت «حركة النهضة» على الزجّ بزعيمها راشد الغنّوشى للبرلمان كى يتبوّأ منصب رئاسته، ويُمارس من خلاله حياته السياسيّة، بدلا من إحالته إلى التقاعد.
خامسا: إنّ وصول الغنّوشى إلى البرلمان، وترؤّسه المتوقَّع للمجلس النيابى، يشير إلى استمرار سياسة التوافُق التى باتت تكرِّس نِظام الحُكم المُعولَم فى تونس، من خلال هَيمنة القوى الإقليميّة والدوليّة على القرار السيادى التونسى، إذ تتولّى النهضة بمُقتضاها رئاسة المجلس النيابى، وتترك رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة لمرشّحين من النواة الصلبة للدولة العميقة (أى لشخصيّتَين من بورجوازيّة بلديّة العاصمة المُتحالِفة مع أهل عصبيّة الساحل).
النص الأصلى:من هنا

التعليقات