مهما كانت الأسباب، لا يُمكن أبدا فى أى يومٍ من الأيام اختزال إشكالية مجتمع مع نظام حكمٍ إلى مجرد «إسقاطه»، بل لا بد من إعداد بديلٍ شامل يحمل طموحات المجتمع المعنِى، ويضمن لكل مواطناته ومواطنيه أفقا مفتوحا أفضل.
انتفاضة الشعب السورى فى عام 2011 كانت لها بالتأكيد أسباب داخلية، اجتماعية وسياسية، بدءا من موجة «التسونامى» الشبابى، ومرورا بممارسات السلطة القائمة الاقتصادية والاجتماعية والفئوية على مدى سنوات سابقة طويلة، ثم عمائها وظلمها وعنفها، وعدم قُدرتها على احتواء الأزمات، ناهيك عن نهبها للموارد، وما لا يُمكن تبريره لأية سلطة. هذا لا يعنى التغاضى عن أمراضٍ ذاتية يُعانى منها المجتمع السورى، على رأسها الطائفية الكامنة، ولا يعنى التغاضى عن التآمر الكبير لقوى خارجية ودفع المناداة بالحريات والكرامة نحو التطرف والسلاح والفئوية بحجة «مظلوميات» حقيقية أو متوهمة، لا يهم، وما تمت ترجمته بتوجيه كمٍ كبيرٍ من كل إرهابيى الدنيا لخوض صراعٍ لا أفق له على الأرض السورية.
أيضًا وبالتأكيد تتحمل السلطة الحالية فى سوريا، باعتبارها القائمة على تسيير الأمور واتخاذ القرارات، المسئولية الأكبر عن المسار الذى وصلت إليه البلاد من تقسيمٍ فعلى واحتلالات أجنبية وانهيارٍ اقتصادى ومعاشى وانقسام المجتمع على ذاته فى ذهنيات ضيقة متناقضة، فى إطار «قوقعته» الفئوية، مما فاقم الحرب التى أضحت توصف بـ«أهلية» جزئيا.
لكن بالمقابل يتحمل المجتمع و«نخبه» أيضا مسئولية حقيقية منذ بداية الانتفاضة عند الانجرار وراء شعارٍ لا معنى له أن «الشعب يريد إسقاط النظام»، دون تبنى الأفق المطلوب. شعار «إسقاط النظام» المعنى احتوى، رغم سهولة وخصوبة تعبئته الشعبية، الكثير من الالتباسات. أول تلك الالتباسات، وربما أخطرها، هو المزج فى تعبير «النظام» بين السلطة التى تهيمن على الدولة وبين الدولة بحد ذاتها كمجموعة مؤسسات. فبدل توجيه الأمور نحو البحث عن سبل لتغيير السلطة القائمة وممارساتها، وأخذ الدولة، والجيش بشكلٍ خاص، إلى جانب المجتمع، ذهب البعض إلى مشروع إسقاط الدولة ومؤسساتها، بكل «رموزها وأركانها» كما بات شائعا حينها. وما يعنى واقعيا الذهاب إلى الفوضى والتشرذم دون أى أفقٍ حقيقى. كما احتوى الشعار المطروح ضمنيا أو صراحة التباسا آخر بأنه يُمكن إسقاط «نظامٍ» عبر تدخلٍ عسكرى خارجي، تأثرا حينها بمسار الأمور فى ليبيا ودون أخذ العبر من تجارب دولٍ أخرى كالعراق القريب الذى جره التدخل الخارجى إلى حربٍ أهلية طائفية «مزمنة» مقيتة.
***
إن الانجذاب وراء مثل ذلك الشعار أعفى «نخب» السياسة والمجتمع السورى من طرح مشروع سياسى اجتماعى بديل. مشروعٌ كان يُمكِن له أن يشكل طموحا جامعا لكل السوريات والسوريين. بل اللافت هو أنه بعد عشر سنوات من الصراع، ما زال مثل ذلك المشروع غائبا، وتبقى «القوقعة» الفئوية قائمة وسائدة، بل تفاقمت لدى كثيرٍ من الأطراف الفاعلة على أرض الواقع. هذا فى ظل استمرار البعض برفض الإقرار أن «الدين لله والوطن للجميع»، الذى اتفق عليه والتف حوله أصلا كل من ناضل لتأسيس الدولة السورية منذ أوائل القرن العشرين. أو فى بحث آخرين عن تعبئة «مكونات» الشعب السورى بهدف تقاسم مؤسسات الدولة ــ أو شبه الدولة ــ بين هذه «المكونات»، ذلك إعادة لإنتاج نموذجٍ لبنانى أثبت اليوم عجزه. واستمرت لدى جزءٍ ثالث إشاعة الاعتقاد أن حرية الأوطان يُمكن أن تُبنى على القمع والخنوع بعيدا عن سيادة الحريات الفردية والجماعية.
وانتهى الأمر كى يبرز لدى كلٍ من الأطراف المهيمنة على الأرض حلم أن جيوش الدول الخارجية هى التى ستحقق طموحاته أو تثأر لـ«مظلومياته». طرفٌ توهم، ويتوهم، أن الولايات المتحدة ستنخرط حتى النهاية فى مشروع التقسيم والصراعات الإقليمية لتحقيقه. وزعم طرفٌ آخر أن روسيا ستتخلى عن السلطة القائمة لتنصبه على رأسها. أو أن تركيا ستنتهى إلى جعل مناطق سيطرته «المحرَرة» قبرص تركية جديدة. أو شاع لدى أصحاب قرار السلطة الحالية أن إيران وروسيا ستضمنان استمرارية جنونه فى الهيمنة على شعبه دون حساب ودون استقرار، وأن الدول الأخرى ستخضع نهاية إلى رغباته. كل ذلك فى ظل تسارع انهيارٍ لسبل المعيشة وتفلت وتسلط أمراء الحرب على أرزاق البشر فى جميع مناطق الولاءات المختلفة.
واللافت اليوم أن مشهد المنطقة المحيطة بسوريا لم يُحفِز الكثيرين على التخلى عن أوهامهم، بما يُمكِن أن يجنوه من «الخارج»، ممثلا بدولٍ بعينها أم بـ«مجتمعٍ دولى» افتراضى. ولم يُحفزهم على ذلك إصرار القوى الخارجية على الإبقاء على سلطة الزعامات الطائفية الستة فى لبنان رغم سرقتها لأموال الأفراد والدولة سوية، وأخذ الاقتصاد والمجتمع إلى الانهيار. ولم يحفزهم أيضا على التخلى عن الأوهام الانسحاب الأمريكى من أفغانستان وتسليم البلاد لتنظيمٍ متطرفٍ أصولى، ربما فقط لإزعاج روسيا والصين. كما لم يحفزهم عجز الأمم المتحدة و«المجتمع الدولي» عن وقف الحرب فى اليمن، رغم حساسية موقع العربية السعودية فى أسواق النفط، وعن خلق استقرارٍ مستدامٍ فى ليبيا.
لا يُمكن بناء طموحات التغيير والحرية، وحتى بالحدود الدنيا من كرامة العيش، على أوهام تدخل الدول الخارجية أو على تصريحاتها. ولا يُمكن كذلك البناء على مظالم سابقة أو على مشاريع فئوية.
***
سوريا، مثل جميع الدول التى تعانى اليوم من تداعيات صراعاتها الداخلية وعجز السلطات القائمة عليها وتدخلات القوى الخارجية وحروبها المباشرة أو بالوكالة، بحاجة أكثر من أى وقتٍ مضى إلى مشروعٍ سياسى اجتماعى وطنى بديل. مشروعٌ أساسه المجتمع فى مواجهة السلطة، بل كل سلطات الأمر الواقع. مشروعٌ ينهض بالمجتمع على قاعدة «المدنية» المحمية دستوريا بالنسبة لمجموع المواطنات والمواطنين المتساوين فى الحريات والحقوق. مشروعٌ لا يقوم على استنهاض «مظلوميات» من أجل مطامع. مشروعٌ ينظر إلى الدولة أنها مجموعة مؤسسات تحمى الحق العام، أى حق جميع المواطنات والمواطنين، وليس حقوق مجرد أفرادٍ أو فئاتٍ. مشروعٌ لا يقبل أن تهيمن سلطة، أية سلطة مهما كانت، على الدولة لتسويغ احتكار الموارد لصالحها أو لتوزيعها على «أزلامها»، بل يعيد تنظيم دورها الأساسى فى حماية المجتمع وتوزيع الموارد بين الفئات الاجتماعية وبين المناطق المختلفة، لنصرة الفئات الأكثر هشاشة والمناطق الأكثر تهميشا وتأمين الخدمات الأساسية للجميع. مشروعٌ لا يقوم على تجميع «الفعاليات» المتواجدة بقدر ما يبنى على الفرز لخلق قوة سياسية مجتمعية تؤمن بالمواطنة المتساوية والحريات تفرض نفسها طرفا فى مواجهة «الفئوية» و«إمارات الحرب». مشروعٌ يتصدى بشجاعة ومسئولية لتبعات الصراع والتشرذم والتقسيم كى يحفز كل قوى المجتمع للنهوض والتعافى وإعادة الإعمار.
بداية مثل أى مشروع مستقبلى تكمُن فى فضح الواقع الحالى دون مواربة ولا مجاملة، وتخطى الفئوية المستفحِلة والأوهام العبثية، وكذلك مشاعر الإحباط وغياب أى أمل سوى الهجرة. إن البلاد بكل أجزائها وأرضها وترابها لجميع السوريات والسوريين. وبالتالى تستحق، رغم كل المعاناة السابقة والحالية، صبرا ومثابرة ممن يحملون مشروعا يخدم مجتمعها وينهض به ويصون حرياته. بالمحصلة وطن المجتمع، كل المجتمع، لا حكامه.