مساء صَبُّور - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:03 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مساء صَبُّور

نشر فى : الجمعة 5 أكتوبر 2018 - 10:15 م | آخر تحديث : الجمعة 5 أكتوبر 2018 - 10:15 م

كانت السماءُ حالمةً، والقمر يطلُّ مِن الفضاء بهيًا، ويسبغ ضوءَه على السائرين؛ ما بين آيبٍ إلى مَسكنه، وهائمٍ على وجهه، وقاصد مَوطن رزقٍ؛ يستلزم مِن السهرِ ما يطول.
أمام المكتب المعدنيّ المُتهالك جلس صَبُّور، يداعب بيده الدفتر الصغير الذى انتزعت معظم أوراقه، يحدق تارة باتجاه الباب المفتوح، وتارة أخرى باتجاه السرير؛ يتأمل القوائم الأربعة إذ هى حافلة ببقع الصدأ البنية، ويمسح بنظراته الغطاء الأبيض المُهترئ إذ هو مشوب باصفرارٍ مُزمِن. ناجى نفسه ممتنًا لتناغم المشهد وتكامل المُفردات؛ حالُ المكان مِن حال المرضى المتوافدين بين الحين والآخر على صالة الاستقبال، لا يوجد شذوذ ولا استثناء.

***

لم يكن صَبُّور مِن أوائل الخريجين، لكنه اجتهد قدر ما استطاع، وأصابه الأرقُ لفرط توجُّسه وقلقه خلال الامتحانات، تناول مِن القهوة آلاف الأكواب، وبقى متيقظًا لعشرات الساعات، يعيد ترديد المُذكرات، ويقارنها بما جاء فى الكتب والمراجع المكدسة من حوله؛ محتلة الشقوق والأركان، يسترجع عجائب المحاضرات وغرائب الأسئلة، ويتحفز للمكائد التى قد يقع فيها ويتحسب للأفخاخ، إلى أن نجح أخيرًا وصار طبيبًا يُشار إليه بالبنان.
فى تمام الثانية بعد منتصف الليل، وصل رجل مُصاب فى حادث سيارة، وأعقبته مريضة فقدت الوعى إذ فجأة وحملها ذووه حملًا إلى المستشفى. بدأ َصُّبور يباشر العمل كما تمنى، ولم يكُن فى حوزته مِن أدوات ما يُمكِّنه مِن تنفيذ ما تعلَّم على مدار السنوات، لكنه راح يبذلُ المُحاولات فى سبيل إنقاذ المريضين.

ما بين انهماكِه فى خياطة الجروح، وكتابة الفحوصات المَطلوبة والتحاليل، والاستماتة فى إيقاف النزيف؛ أصابت يده الإبرة وأسالت بعضًا مِن دمائه، لكنه لم يعبأ كثيرًا؛ ليست المرةُ الأولى ولن تكون الأخيرة. أفلتت مِنه ضحكةٌ مبتورة، وهو يتذكر المعارك التى قامت ولا تزال؛ فى سبيل حصول الأطباء على بدل عدوى مقبول، مع ذلك حمد الله وشكره على الجنيهات القليلة؛ التى حتمًا تكفى لشراء بكرة شاش كبيرة، ورشَّة كحول أو رشتين لدواعى التطهير.
***
لم يكن أداءُ صَبُّور مُرضيًا لجموعِ الحاضرين، الواقفين على رأس السرير؛ فقد أعربوا عن السخط والغضب، وأظهروا الطمعَ الشديد، وطلبوا سريرًا آخر وغطاءً نظيف، ثم تعاظم غرورهم؛ فرفضوا شراءَ المُستلزمات الطبية التى كتبها لهم صَبُّور ووصفها بعناية؛ إذ لم تكن مُتوفرة بالمستشفى، ولم يكُن لها بديل.
بين قلَّة الحيلة وسذاجة المُبتدئين، نالت اللكماتُ مِن رأس صَبُّور، وصحبتها عدةُ ركلات مُوجِعة فى قصبة الساق والبطن، فيما انطلق السبابُ القاذع مِن الأفواه، ومعه تطايرت بعضُ الزجاجات التى تهشمت فى الطريق، وظهرت عصيٌ لا يعلم أحد مِن أين، وانشغل صَبُّور بدرءِ الأذى عن جسده وعن المريضين، لكن أحدهما أسلم الروح بلا استحياء، فاستعرت المَعركةُ وحمى الوطيس، وانضم الحصىُ والطوبُ إلى قائمة الأسلحةِ المُستخدمة؛ فقد توفر منهما فائض أمام الباب.

***

أخيرًا سقط صَبُّور، وتراءت له فى لحظات ما قبل الإغماءة، تصريحاتٌ عدة حول المبالغ الضخمة التى يتقاضاها الأطباء المتوحشون، وأخرى حول السماح لأطباء أجانب بالعمل فى البلد تحت قيود وشروط دقيقة؛ حتى لا تختل المنظومة، ثم لم تلبث أن غشت ذاكرته المتخافتة لقطة لطبيب شاب؛ ترك مهنته وفضل المناداة على زبائن الميكروباص، وثانية لزملاء دفعته الذين غادروا واحدًا وراء الأخرى قاصدين دول الخليج، أما المشهد الأخير فلمجيء الخليج نفسه؛ «كى يدلى بدلوه فى منظومة الخدمات الطبية«.
بعد ساعتين وصلت عرباتُ الشرطة، وجلجلت أصواتها فى المكان، ودارت أضواؤها تكشف المُتلاحمين، وقفز منها مَن قفز؛ ليصبح الموقف قيد السيطرة التامة المُحكَمة، وسرعان ما غادرت الموقع ظافرة، وقد ابتلعت فى جوفها الجميع. كان مِن ضمن المحتجزين صَبُّور؛ الذى ظل متأرجحًا لفترة غير معلومة بين الإفاقة والإغشاء، عالقًا ما بين الهلاوس واليقين؛ أما المُصاب فقد بقى وحيدًا على السرير، يحاول خياطة الجرح المفتوح.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات