هناك سعى لتحميل المجلس العسكرى أخطاء وخطايا الشهور الماضية، مثلما وجدنا فى نظام مبارك الأسباب والعلل لكل التدهور والتحلل الذى يعيشه المجتمع المصرى. النخبة فى الحالتين سليمة، ناضلت ضد النظام السابق، واليوم تواصل النضال ضد الحكم العسكرى. هذا خلط للأوراق، وتدليس صريح على المجتمع. هناك أخطاء لا يمكن أن نعفى المجلس العسكرى منها، لكن الأمانة تقتضى أن نواجه النخبة السياسية، من قوى سياسية وأحزاب وحركات شبابية بأخطائها، ولا نسمح لها باستمرار حالة التطهر التى تعيش فيها.
(1)
تتحمل النخبة السياسية مسئولية أساسية عما آل إليه المجتمع من تخبط فى الرؤية، وعدم تفاؤل بالحاضر، وغياب اليقين فى المستقبل. فقد تجمعت أطياف هذه النخبة فى ميدان «التحرير» مطالبة بسقوط النظام، تعرف ماذا تريد أن تهدم، دون أن تتفق على ماذا تريد أن تبنى. تاهت، وتاه معها المجتمع. كل فصيل منها يريد أن يوظف المجلس العسكرى لحسابه. مرة تحت لافتة الدستور أم الانتخابات أولا، وأخرى فى معركة «الدولة المدنية» أم «الدولة الدينية»، وثالثة حول ما سمى بالمبادئ فوق الدستورية. تطاحنت القوى الثورية، وانشغل الإعلام بخلافاتها، ولم يصل شىء مفيد له معنى للمواطنين العاديين. لم تبتكر النخبة القائمة فى معاركها بعد 25 يناير أساليب جديدة للتواصل، ولغة خطاب مختلفة، بل عادت إلى مخزون السجال الذى تعرفه على مدى عقود ممتدة من نظام مبارك.
هكذا قدر لنخبة الثورة فى ميدان «التحرير» أن تجتمع على الهدم، وتفرقت بها السبل عندما أرادت أن تبنى شيئا جديدا. فريق من النخبة السياسية هم الإسلاميون يرون أن الشرعية الملتبسة استفتاء 19 مارس هى التى تقودهم إلى الحكم، وفريق آخر من النخبة السياسية الليبرالية واليسارية يرى أن الإسلاميين يريدون القفز على السلطة على حساب تحقيق مطالب الثورة. قوى تريد رحيل المجلس العسكرى وأخرى تناشده البقاء لأنه «مش قاعد على قلبنا»، على حد تعبير أحد نشطاء الثورة من الليبراليين. انقسمت القوى الثورية. بعد شهور من إعلان التخوف الدائم من منافسة «فلول الحزب الوطنى» يستعد الثوار لمنافسة بعضهم بعضا فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، والبعض الآخر ينسق مع «الفلول» علنا ومن تحت الطاولة. لم تعد هناك ثورة واحدة، ولكن مشروعين متضادين للثورة، وهو تصور يقترب مما كان سائدا فى عهد مبارك، أحدهما يريد دولة يهيمن فيه الدين على السياسة، وآخر يسعى للفصل بين الدين والسياسة. ومهما اختلفت المسميات، فإن الصراع على هوية الدولة المصرية هو لب الخلاف، ومصدر الشقاق.
(2)
تتحمل النخبة السياسية مسئولية تنحية البعد الاجتماعى فى الثورة المصرية، بشىء من الجهل حينا، وبالتواطؤ أحيانا. فقد شهدت الشهور التسعة الماضية مساجلات ممتدة، بعضها شديد الالتهاب حول قضايا سياسية: هوية الدولة، الدستور، قانون الطوارئ، الانتخابات، العزل السياسى.. إلخ. البعد الاجتماعى الذى يتمثل فى العيش الكريم والعدالة الاجتماعية شبه غائب أو مغيب. السبب واضح، أن الحكم الحالى هو امتداد للسابق، والقوى السياسية الحالية تعبير عن مصالح وعلاقات اقتصادية تبلورت على مدى عقود، وبالتالى فإن الإدارة السياسية الحالية للبلاد، والقوى السياسية والحزبية، بما فى ذلك التيار الإسلامى بحكم المصالح لا المبادئ، ينحازون إلى الطبقات الاجتماعية الاقتصادية التى كانت سائدة ومهيمنة فى عهد مبارك.
أكثر من هذا، تشير الحسابات الاقتصادية إلى أن الطبقات الفقيرة لم تسعد بالثورة، وتدهورت أوضاعها المعيشية على نحو أكثر قسوة مما كانت على فى ظل النظام السابق نتيجة البطالة، عدم وجود فرص عمل دائمة للعمالة اليدوية، التضخم وارتفاع الأسعار.. إلخ. وبرغم ذلك فإن النخبة السياسية لم تضع على قمة أولوياتها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للطبقة الوسطى المتآكلة والطبقات الفقيرة، ويبدو أنها بوعى أو بدون وعى تقف موقف التحفظ من إثارة الأسئلة الاجتماعية فى الثورة المصرية حتى تظل الأسئلة السياسية وحدها ضاغطة، وكأن الثورة سياسية فى المقام الأول، فى حين أن شواهد عديدة تفيد بأن مشاركة قطاعات عريضة من المجتمع تعود إلى أسباب اجتماعية أكثر منها سياسية. اختطاف الاجتماعى لصالح السياسى فى الثورة المصرية ينذر بمخاطر، ليس أقلها حدوث ثورة أخرى تعيد طرح السؤال الاجتماعى بقوة، وهى الحالة السائدة فى العالم فى أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل. فى تحليل متميز نشرته مجلة «التايم» نجد تشابها بين ما حدث فى ميدان «التحرير» فى قلب القاهرة وبين مظاهرات «وول ستريت» فى الولايات المتحدة، مبعثه الأساسى المسألة الاجتماعية التى حركت الآلاف للتظاهر والاحتجاج السلمى. فى مصر كان هناك انطباع العالم الخارجى أن الاقتصاد فى نمو، لكن ظلت «الثروة» أعلى قمة الهرم الاجتماعى حتى حدثت «الثورة» فى أسفله. نفس الحال فى الولايات المتحدة، المتظاهرون خرجوا يعلنون رفضهم لسياسات «وول ستريت» التى تدفع الجماهير ثمن فشلها، فى حين ظلت النخبة المهيمنة ماليا بعيدة عن المساءلة. فى الحالتين كانت العدالة الاجتماعية فى قلب الحدث.
(3)
تتحمل النخبة السياسية مسئولية حالة البؤس الفكرى التى يعيشها المجتمع المصرى. لم تظهر أفكار لامعة تنعش الأمل فى إمكانية التقدم، بل هناك اجترار لمعارك وقصص الفساد، وحكايات بلاط السلطة فى عهد مبارك، والخناقات بين التيارات السياسية. لم تطرح النخبة ــ وبالمناسبة هذا هو دورها ــ رؤى جديدة لتطوير المجتمع فى مجالات التعليم والبحث العلمى والتخطيط العمرانى، الزراعة والإعلام ومشاركة المواطنين.. إلخ. سقوط نظام مبارك كشف ضعف النخبة المصرية، واعتيادها على المعارضة، فقط المعارضة دون أن تكون لديها أفكار جادة لتطوير المجتمع من منظور قوى سياسية تتنافس فى مناخ ديمقراطى حر. وبعض المصريين المغتربين الذين عادوا بعد الثورة يحدوهم الأمل فى المساهمة فى «مصر الجديدة»، ما لبثوا أن عادوا أدراجهم محبطين بعد أن أوصدت الأبواب فى وجوههم، ولم يجدوا تغييرا حقيقا. ويمكن العودة إلى ما تمخض عما يعرف بالحوار الوطنى وكذلك الوفاق القومى لنكتشف كيف أن الأفكار التى طرحت هى إعادة انتاج لما هو متداول على مدى سنوات طويلة، دون أن تكون هناك رؤى جديدة إلا فى أضيق حدود.
…
بؤس حال النخبة المصرية هو الذى أدى إلى غياب التواصل مع قطاعات عريضة من المجتمع، وتطوير وعيها وإدراكها بالقضايا العامة، وإشراكها فى الحوار الدائر حول المستقبل. من هنا فإن إحباط الناس له ما يبرره، وغضبهم له ما يفسره، والتباس موقفهم تجاه الثورة له عذره، فهم لم يروا من الثورة سوى تدهور فى نوعية الحياة، البيئة والأمن والاقتصاد والأخلاق. الجماهير ليست مدانة، ولكن الإدانة تقع على عاتق النخبة التى تريد دائما أن تكون فى موقع «التطهر» لا يمسها بنقد إلا المطهرون!