الكتاب الذى أصدرته دار الثقافة الجديدة للباحث جمال عمر تحت عنوان (مدرسة القاهرة فى نقد التراث والأشعرية) واحد من الكتب التى ينبغى أن تقرأ الآن لأن مضمونه لا ينفصل عن أساس المعركة الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعى حول الشيخ الشعراوى ودوره فى تاريخ مصر المعاصر.
صحيح أن الكتاب الذى يحتاج لاهتمام نقدى كبير يراجع الكثير من أفكار صاحبه لا يتعرض لهذا الدور بصورة مباشرة إلا أنه يؤسس للأرضية التى تضع أى مناقشة حول الفكر الدينى فى مصر فى مسارها الصحيح.
والمفارقة التى يصل إليها الكتاب تقول إن الأزمة لم تكن إلا نتيجة لعملية استباحة للعقل أو نهب للتراث وقراءته قراءة استبدادية أو استعمالية فواقع الحال يكشف أن الجامعة تعرضت هى الأخرى لعملية تجريف أنهت صلتها بالمجتمع وتأثيرها فى الناس.
ولعل السبب فى جرأة المؤلف فى إطلاق هذا النوع من الأحكام تعود لكونه جاء إلى حقل الدراسات القرآنية أو لمجال الفكر الدينى من أرضية غير تقليدية تقوم على اجتهاد فردى، فقد هاجر إلى أمريكا بطريقة غير شرعية، وهناك تغيرت نظرته إلى الإسلام بعد أن وجد نفسه ممثلا لعقيدة كان عليه أولا أن يؤهل نفسه لإدراك مكوناتها العقلية وفهمها بطريقة عقلانية قبل أى شىء آخر،
وفى مساره الفكرى مثل اكتشاف أفكار نصر أبو زيد منتصف التسعينيات صدمة متكاملة الأركان استطاع المؤلف تخطيها ليصبح من أخلص تلاميذ نصر وأكثرهم إعجابا بمشروعه فلم تتوقف مبادراته للتعريف بنصر وأدواره المتعددة.
يفرق الكتاب بين قراءاتين للتراث، الأولى تنطلق من حدود الفخر بالماضى وتصل إلى حدود اجتراره أو استعماله، أما الثانية فهى قراءة تسعى لإقامة علاقة صحية مع الماضى تقوم على الفهم والاستيعاب من أجل تجاوز التراث وقراءات القدماء، ويفصل الكتاب للمسار العقلانى الذى اتخذته القراءة الثانية منذ افتتاح الجامعة المصرية عام ١٩٠٨ وحتى الآن متوقفا أمام نماذج طه حسين ومصطفى عبدالرازق وعثمان أمين وسامى النشار وتوفيق الطويل إلى أن تصل لحسن حنفى وجابر عصفور وعلى مبروك.
ويعرض المؤلف النقاط الرئيسية فى أفكار هؤلاء وكلها تدعو إلى استكمال مهمة الإصلاح الدينى التى بدأها الشيخ محمد عبده لكن ما يراه المؤلف أن بعض هؤلاء المثقفين الكبار تورطوا مثل الأسلاف تماما فى قراءة تقوم على تبعية مطلقة للنموذج الغربى وتهرب من مواجهة واقعها بعد أن تحولت الجامعة إلى مؤسسات تلقين.
ويدعو المؤلف إلى ما يسميه إقامة علاقة (علائقية) تقوم على هضم التراث وتخرج من الثنائيات التى أصابت فكرنا بالركود؛ لتخلق مكونا جديدا يتجاوز أزمة خطابنا الثقافى وفجواته التى استعملها الدعاة لتوطيد وجودهم فى المجتمع، فقد استبعد الخطاب الثقافى الرسمى الذى أنتجته الجامعة ورجالها الناس من المشهد وأوكلوا للسلطة وأجهزتها مهمة التغيير والتنوير تحت تأثير الخوف من الجماعات الدينية، فظل الناس فى خلفية المشهد مجرد متلقين وما أراده نصر أبو زيد هو أن يتحول هؤلاء المستبعدون إلى فاعلين لكى لا يسقط خطاب النهضة والإصلاح ضحية عملية (تسيس) يصبح معها أى كلام عن التحديث وتجديد الخطاب الدينى أقرب لـ(عملية ترقيع) أو كما أسماه الراحل د.جلال أمين (تنوير زائف) يزيد من عزلة المثقف ويوجد المسافة التى تنهبها كل الخطابات المعادية للعقل.