على مدى الأيام الماضية التى تخللتها الانتخابات، لم ألتق شخصا واحدا راضيا عن حاله أو حال البلد. لا يجتمع فردان إلا ويتطرق الحديث إلى الذمم الخربة التى تتسع للنهب والرشوة وكل أشكال الفساد، إلى كم الخداع والمراوغة وأساليب التحايل التى تتطور باستمرار فى مختلف جوانب الحياة، إلى سوء الإدارة واستغلال النفوذ وتردى مستوى الخدمات.
نغمة واحدة مشتركة، الكل ساخط وحانق على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتدنية. الكل يدين أخلاقيات القهر التعيسة التى سادت المجتمع، الكل يرصد مظاهر التشوه النفسىّ المتنامية، الألفاظَ الخشنة التى صارت الألسنة تقذفها بتلقائية، والأفعال والسلوكيات العنيفة التى تزداد قبحا كل يوم. لا يخلو الحديث من إشارة إلى تراجع قيمة العمل لدى معظم الناس وانعدام الرغبة فى بذل الجهد، وكذلك إلى السلبية التى تُطَوِّقُ الجميع وتشلُّ أى محاولة للتغيير.
ليسوا بقلة هم، من يرغبون فى ترك كل شىء والهجرة إلى أى مكان.. أى مكان يقبل وجودهم بعيدا عن مصر. تؤرقهم بساطة الحال وضآلة ما يتحصلون عليه من نقود، لكن ثمة أشياء أخرى تبدو مؤثرة وربما موجعة: يشيرون إلى طبيعة الإنسان المصرى التى أصابها تغير كبير، صعوبة المعاملات اليومية، اختفاء الدفء والتعاون والاحترام، الفجاجة وتمركز كل فرد حول ذاته لا يرى سواها ولا يكترث للآخرين، روح المجتمع التى شاخت وأصابتها العفونة. وصلة من الرثاء ينخرط فيها الناس فور أن يبدأ الحديث، حنين إلى مصر جميلة يذكرون أنها كانت ذات يوم حاضرة، حتى وإن لم يرها بعضهم رأى العين.
لا يشذ أحد عن هذا الطرح. أسى وغضب وإحباط ثم لوم للجميع. كل فرد يدين «الآخرين». المجموع متهم وملوم، وفى ذات الوقت كل منا بمفرده برىء. يتشكل المجتمع من مجموع الأفراد، ومع ذلك يشير كل فرد فيه إلى أن الأزمة تكمن فى «الناس» مستثنيا ذاته. يستنكر أفراد المجتمع ما وصل إليه من فوضى وانحدار، فمن يا ترى أوصله إلى ذاك الموضع الذى يرفضه الجميع؟ هو سؤال منطقى. الحقيقة أننا لا نرفض سوى فى داخلنا، لا نترجم رفضنا إلى فعل مادى. لا نرى عجزنا عن الفعل لكننا نرى جيدا عجز الآخرين، هى أزمة غير معلنة. يرى جشطالت «Gestalt» فى فرضياته أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء، حاصل جمع الأزمات الفردية ــ إذا سلمنا بوجودها ــ يتضاعف بتعميمه على المجتمع ليصبح أزمة كبيرة مترامية الأطراف. يحدث هذا على نطاق ضيق ثم يتسع ليشمل كل شىء. حين يصبح العجز عن الفعل موقفا عاما فإن الكل يغرق فيه.
جاءت الانتخابات كما تجىء فى كل دورة جديدة، صراعات ومشاحنات ودماء ونسبة ناخبين لم تتجاوز الخمسة والعشرين بالمائة. رغم سوء الوضع الاقتصادى الذى دفع بقطاعات عديدة من البشر إلى الاحتجاج فى الشوارع، لم تختلف انتخابات 2010 عما سبقتها ولم يتضاعف عدد الناخبين. لم يشكل المتضررون من سياسات الدولة كتلا تصويتية كبيرة. لم يحدث ضغط فعلى لفرض انتخابات دون تزوير. هناك من فضل يائسا أن يلتزم البيت، ومن ابتهج للخروج من العمل مبكرا وقرر أن يستريح، وهناك من ذهب لاختيار مرشح يوزع أوراقا مالية أو طعام. على كل المستويات لم يعلن الناس عن رغبة حقيقية فى التغيير.
فى أحد الأركان دار حوار بين مجموعة من الموظفين، يراقبون حافلة مكيفة الهواء، بعث بها مرشح حكومى كى تقل الراغبين منهم إلى لجنة الانتخاب. تبادلت أفواههم عبارات مُستَاءة، بعضها يستهجن بيع الأصوات ويؤكد أن مثل هذه التصرفات هى السبب فى تردى الأحوال، وبعضها يدفع بعدم أحقية هذا المرشح فى النجاح لمواقفة المشينة، والبعض الآخر يعلق على «طمع الناس» وقصور تفكيرهم. نوَّه عدد من المتحاورين إلى ضآلة المبلغ المالى المدفوع مقابل الصوت الواحد. حين هَمَّ الأتوبيس بالتحرك انقطعت المحادثة وتوجه الموظفون إليه.. تحاشوا التقاء النظرات وصعدوا ليحتلوا مقاعده، تردد البعض ثم لم يلبث أن حسم الأمر ولحق بزملائه. لَوَّحَ الراكبون بأيديهم من النوافذ إلى الشخصين اللذين تبقيا. الإرادة التائهة الرخوة لها مقابل مادى مباشر يحفظ استمرارها، ثمن البشر فى سوق الانبطاح والذل والخنوع.
العجز عن الفعل له أسباب متعددة. ربما يكون نتيجة للخوف الزائد من أى خسارة محتملة، وربما هو انعكاس لأزمة ثقة: ثقة فى النفس وفى إمكانية التغيير. كثيرا ما نتبع فى اختياراتنا اختيارات الآخرين التى تبدو دائما أكثر سهولة، ولأننا فى داخلنا ندرك خطأها، فإننا لا نجد ضيرا من تنفيذها ثم الاعتراض عليها وإدانتها طيلة الوقت. نتهم «الناس» بكل ما فى جعبتنا من اتهامات، نجعلهم سببا لجميع المشاكل، نرسم لأنفسنا صورة مثالية ونصيغ مبادئا عظيمة، بينما الكلام المنمق لا يترجم إلى أفعال والأفعال تجافى ما نفصح عنه من أفكار.
أضيف إلى شكاوى الحانقين والغاضبين ومن يملؤهم الضيق، أكوام القمامة التى تملأ الشوارع والعقول والقلوب، والعبوس الذى يطل من وجوه السائرين.