الردود الحادة من الدول العربية على زيارة بن غفير إلى الحرم القدسى، حتى لو بالسرّ وسريعا، كانت متوقعة. الحرم القدسى هو كقنبلة نووية، من حيث قدرته على إلحاق الأذى إن لم يتم التعامل معه بالصورة الصحيحة. ولا توجد مبالغة هنا. الحرم القدسى والمساجد هى نقطة ضعف حساسة جدا فى العالم العربى والإسلامى. تغيير الوضع القائم فى الحرم يمكن أن يؤدى إلى سلسلة ردود حادة جدا، تصل إلى حدّ المس بالأمن القومى الإسرائيلى.
إسرائيل دولة قوية جدا، وليست بحاجة إلى إثبات أى شىء لـ«حماس». من غير المعقول أن تؤثر تهديدات «حماس» فى السياسات الاستراتيجية الإسرائيلية، التى يتضح أنها تفضل الانشغال بقضايا أُخرى. بالأساس، «حماس» تهدد استنادا إلى اعتبارات تشمل الردع الإسرائيلى، والتخوف من ردّ الجيش. ومن اللحظة التى انتهت فيها «زيارة» بن غفير السرية والسريعة لم يكن هناك أى حاجة إلى الرد. وإذا ما قرّر بن غفير تصعيد الوضع والصعود إلى الحرم بشكل استفزازى وواضح خلال شهر رمضان، فمن المتوقع أن يكون هناك ردود دولية حادة أكثر. هذه الردود الدولية مقلقة أكثر وتأثيرها أكبر فى علاقات إسرائيل الاستراتيجية، من الرد المحتمل لـ«حماس».
بن غفير، وبعكس المرات السابقة، هو وزير. هو السلطة. عندما «يدخل» إلى الحرم القدسى معنى ذلك أن إسرائيل هى التى «دخلت». وإن كانت التقارير بشأن تأجيل زيارة رئيس الحكومة نتنياهو، أحد الذين صاغوا «اتفاقيات إبراهام» ــ إلى دولة الإمارات صحيحة، فإن هذا مثال على ضرر أخطر بكثير من الناحية السياسية من الرد المحتمل لـ«حماس». الهدف، إذا كان موجودا أصلا، إسرائيل لم تحققه ــ ودفعت ثمنا أكبر بكثير مما كانت تستطيع تحقيقه فى هذه الحالة.
على مسار تصادمى
يمكن القول من دون تردد إن القوة الاستراتيجية الإسرائيلية تستند إلى عمودين: القوة العسكرية، التى هى فى حالة نمو وتوسُّع وتعاظُم؛ والادراك السياسى والاستراتيجى. معا، هما يصنعان قوة استراتيجية شاملة، تحوى فى داخلها قوة حقيقية وردعا استراتيجيا. إن التعامل مع الحرم القدسى بطريقة غير صحيحة، ومن دون حذر، يمكن أن يضع إسرائيل على مسار مواجهة مع الدول العربية والعالم الإسلامى والولايات المتحدة. يمكن ملاحظة هذا من خلال الردود الحادة الفورية للدول العربية والولايات المتحدة، بعد صعود الوزير بن غفير إلى الحرم القدسى. صحيح أنه قام بذلك بصورة مموهة بهدف تقليل الأضرار بالمقارنة مع المخطط الأساسى، لكن هذه الردود تكفى لتكون تحذيرا استراتيجيا لإسرائيل ــ إذا تحوّل تغيير الوضع القائم، الممنوع أيضا بحسب الشريعة، إلى توجه واضح، فإنه سيجرى التعامل معه كاستفزاز. معنى هذا سيكون إلحاق الضرر بالأمن القومى الإسرائيلى بشكل كبير.
وإلى هذا، يجب إضافة «حماس» أيضا، وهى تنظيم «إرهابى» إسلامى دينى يسعى لإبادة إسرائيل. حلم حياة السنوار، زعيم «حماس»، هو إشعال مواجهة بين العرب واليهود فى إسرائيل، وبين إسرائيل والفلسطينيين، وبين إسرائيل والعالم العربى والإسلامى، كما حاول فى «حارس الأسوار». وإن سمحت الظروف ــ فليكن هذا على خلفية دينية. من السهل إشعال حرب دينية ــ ولكن سيكون من الصعب جدا إخمادها.
يمكن أن تجد إسرائيل نفسها أمام جبهة دولية مليئة بالتحديات. المسار بدأ مع الأمم المتحدة التى حولت قضية الوجود الإسرائيلى فى الضفة إلى التحقيق الدولى فى المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى. هذه الخطوة من الممكن وقفها. وعلى الرغم من ذلك، وقوع أحداث صعبة فى الحرم، تكون مصحوبة بـ«عنف» وتغطية إعلامية واسعة فى كل العالم، يمكن أن تجعل وضع إسرائيل أصعب. وبعكس مقولة «شعب يحمى نفسه»، إسرائيل تعتمد على غيرها وتحتاج إلى التعاون الدولى الواسع فى المجالات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية. لذلك، لا يوجد بديل فعلا فى كل المجالات. نحن، بيدنا وبجهلنا، يمكننا إلحاق الضرر بالأمن القومى الإسرائيلى على جميع الصعد. ولا توجد مبالغة هنا.
إن مواقف السياسيين، من أمثال بن غفير وسموتريتش، التى وفقا لها أن من «حقنا السيادى الصعود إلى الحرم القدسى وتجاهُل العالم» معروفة. لكن يجب أن نفهم: أن هذا سيكون خطأً استراتيجيا يمكن أن يشكل فصلا فى كتاب «مسيرة الحمقى». هذا هو الوقت للوقوف وأن نكون واعين. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو معنى بتطوير رد أو العثور على رد على التهديد الإيرانى، الأصعب فى تاريخ الدولة ــ والذى يمزج بين رؤية تسعى لإبادة إسرائيل مع تطوير قدرات تلائم هذه الرؤية. هذا إلى جانب الدفع قدما بالسلام مع السعودية، كدولة عربية قيادية. هذه أهداف استراتيجية مهمة جدا. ولذلك بالذات، وعلى الرغم من المساحة الجغرافية الصغيرة للحرم القدسى، فإن التهديد الذى يشكله على هذه الخطوات كبير جدا ــ ويمكنه أن يضرّ بإرث رئيس الحكومة المعنى بكتابة اسمه فى فصول تاريخ إسرائيل. هذا هو الوقت للمراجعة وتغيير السياسة، لمنع الفوضى.