من يتابع النقاش العام فى ألمانيا بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، سيكتشف تحولا خطيرا فى الثقافة السياسية لبلد أشعل حربين عالميتين فى القرن العشرين وارتكب جرائم إبادة وتدمير مفزعة وقسم ونزع سلاحه من جراء ذلك، وتعلم مجتمعا ومؤسسات دولة أولوية الحفاظ على السلم والأمن فى أوروبا والعالم وأولوية الحلول الدبلوماسية للصراعات بين الأمم.
• • •
ألمانيا المبتعدة عن النزاعات المسلحة والباحثة عن السلام هذه تتغير اليوم بسرعة خاطفة ومقلقة للغاية، وتتورط فى تصدير معدات عسكرية إلى ساحة الحرب الروسية ــ الأوكرانية وفى تخصيص موازنة مالية غير مسبوقة لتحديث جيشها، وتسهم بذلك فى سباق تسلح عالمى سيخسر منه الجميع.
ألمانيا التى طورت فى شطرها الغربى «سياسة الشرق» وابتعدت منذ ستينيات القرن العشرين عن شيطنة الاتحاد السوفييتى السابق والكتلة الشرقية السابقة واعتمدت التعاون الاقتصادى والتجارى والحوار الدبلوماسى كأدوات لفعلها الخارجى، ألمانيا الرشيدة هذه صارت حكومتها ومعارضتها اليوم تتسابقان على طلب موافقة البرلمان على إرسال المزيد من المعدات العسكرية إلى الجيش الأوكرانى.
ألمانيا التى كانت فى سبعينيات القرن العشرين مهدا لحركة السلام الغربية الرافضة آنذاك لنشر الأسلحة النووية على الأراضى الأوروبية ولعسكرة القارة فى سياق الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتى السابق، ألمانيا المسالمة هذه تحول اليوم إعلامها القريب من اليمين والقريب من اليسار إلى الترويج الأحادى لغياب أى حل غير عسكرى للصراع الروسى ــ الأوكرانى ولحتمية المواجهة العسكرية للقوات الروسية الغازية ولتوصيف كل دعوة للتفاوض والحوار مع موسكو كاستسلام لعدوانية فلاديمير بوتين وتهديد للأمن الأوروبى. نحن أمام وسائل إعلام، غير مسيطر عليها حكوميا ومعظمها يعود فى ملكيته لكيانات تجارية ومالية خاصة وتتفاعل دستوريا وقانونيا فى إطار دولة ديمقراطية، تروج لخطاب أقرب ما يكون إلى «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» وتقصى من النقاش العام المعترضين على التورط فى الحرب والاستخفاف بتبعاتها.
ألمانيا التى استعادت بالتفاوض وحدتها وأخرجت بعد عقود القوات الأجنبية من أراضيها فى ١٩٩٠ (قوات الحلفاء المنتصرين فى الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩ ــ ١٩٤٥) وطورت بالعمل الدبلوماسى والتعاون الاقتصادى الاندماج الأوروبى إلى وحدة مالية ونقدية وتجارية وحدود مفتوحة بين الدول الأعضاء وأبقت على خطوط اتصالها مع الدولة الروسية التى ورثت الاتحاد السوفييتى السابق فى ١٩٩١ ودعمتها (بحساب) تكنولوجيا واقتصاديا وتجاريا وسياسيا وتفهمت احتياجات أمنها القومى، ألمانيا هذه أضحت اليوم تتحدث عن روسيا بلسان الولايات المتحدة التى لا ترى فيها سوى التهديد الدائم للسلم والأمن الدوليين والعدوانية المستمرة ضد الجوار الجغرافى المباشر فى أوروبا والمناوئة الممنهجة للغرب ومصالحه فى كل مكان. لم تعد حقيقة أن روسيا، تاريخيا وجغرافيا وتجاريا وثقافيا، تظل شريكة أساسية لأوروبا حاضرة إن فى الخطاب العلنى لممثلى الحكومة والمعارضة فى ألمانيا أو فى الفعل الخارجى منذ نشبت الحرب فى ٢٠٢٢. لم تعد حاضرة حقيقة أن الاستغناء الأوروبى عن الموارد الطبيعية الروسية والعمق التاريخى والجغرافى والثقافى لشعب أوروبى كبير يظل دربا من الوهم المحفوف بالمخاطر، وهى الحقيقة التى استندت إليها سياسة الشرق الألمانية منذ ستينيات القرن العشرين.
ألمانيا التى منذ وحدتها فى التسعينيات بحثت مع فرنسا وشركاء أوروبيين آخرين عن خط أوروبى فى العلاقات الدولية، ورفضت نزوع الولايات المتحدة وشريكتها الأبدية بريطانيا إلى التدخل العسكرى فى مناطق الصراع والنزاع حول العالم، ولم تقبل الصمت على الغزو الأمريكى ــ البريطانى للعراق فى ٢٠٠٣ وعارضت أن ينقلب العالم من ثنائية قطبية (بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى السابق) ذات صراعات محكومة بين ١٩٤٥ و١٩٩٠ إلى أحادية قطبية توظف بها واشنطن السلاح لحسم الصراعات والنزاعات فى أماكن عديدة عوضا عن التفاوض والوساطة والضمانات السلمية، ألمانيا هذه تبدو اليوم، حكومة ومعارضة ونقاشات عامة، وكأنها تتنكر لسلميتها التى اكتسبتها بعد أن دمرت نفسها والعالم مرتين فى القرن العشرين وتسببت فى إبادة وقتل الملايين وتتنكر لتاريخها وجغرافيتها وثقافتها هى التى تحتم عليها مجتمعة أن تكون الوسيط الدائم بين غرب أوروبا وشرقها، بين الغرب بامتداده الأمريكى والشرق بامتداد روسيا من أوروبا إلى آسيا.
بل إن الحكومة الائتلافية الراهنة المكونة من الحزب الاشتراكى الديمقراطى وحزب الخضر والحزب الليبرالى الحر والمعارضة التى يتصدرها الحزب المسيحى الديمقراطى والحزب المسيحى الاجتماعى صارتا يتنكران لنجاحات قيادات سابقة توسطت لدرء انفجار صراعات مسلحة بين روسيا وجيرانها الأوروبيين. المستشار الاشتراكى الديمقراطى السابق جيرهارد شرودر والمستشارة المسيحية الديمقراطية السابقة أنجيلا ميركل، وهو كان على رأس الحكومة ١٩٩٨ إلى ٢٠٠٥ وهى كانت على رأسها بين ٢٠٠٥ وإلى ٢٠٢١، نجحا فى تطوير التعاون الاقتصادى والتجارى مع روسيا إلى شراكة فى مجال الطاقة ترجمتها خطوط أنابيب نورد ستريم ١ و٢ وفى التوسط بين روسيا وجيرانها المباشرين لمنع الحروب والوصول إلى معاهدات دبلوماسية كاتفاقيات مينسك ٢٠١٤ (التى أنهت حرب إقليم دونباس بين روسيا وأوكرانيا وأقرت لروسيا بالسيطرة على شبه جزيرة القرم وأعطت أوكرانيا ضمانات أمنية كانت حقا لها مع التزامها بعدم الانضمام إلى حلف الناتو منعا لإثارة المخاوف الروسية المشروعة). اليوم، صار شرودر فى إعلام اليسار واليمين الألمانى عميلا مدفوع الأجر لبوتين ولسانا لتبرير عدوانيته وخائنا لمبادئ حزبه الاشتراكى يستحق الطرد، وليس رجل الدولة الذكى الذى ضمن لبلاده صداقة مع روسيا وللاقتصاد الألمانى إمدادات غاز روسى رخيصة حافظت على الرخاء والرفاهية. اليوم، أضحت المستشارة السابقة ميركل وبعد خروجها من الحكومة طوعا فى احتياج لأن تخرج على الإعلام الألمانى المتعطش للمواجهة مع روسيا بسلسلة تصريحات تعتذر فيها عن كونها وثقت فى الماضى فى بوتين وبحثت عن توافقات سلمية معه وسعت إلى ضمان سلام أوروبا. هذا جنون كامل أن يصنف مستشار سابق كعميل روسى وأن تضطر مستشارة سابقة إلى الاعتذار عن اختيارات سياسية صائبة وناجحة بحسابات المبادئ والمصالح.
• • •
فى المقابل، لا يتوقف النقاش العام فى ألمانيا لا أمام ميزانية المائة مليار يورو التى اعتمدت لتسليح الجيش حتى ٢٠٢٥، ولا أمام تداعياتها إن الاقتصادية والاجتماعية على مجتمع باتت ظواهر فقر الكبار والأطفال به فى تصاعد أو السياسية على بلد كان يوجه فائض أمواله إلى مساعدات تنموية وبيئية لبلدان الجنوب. فى المقابل، لا يتوقف إعلام اليسار واليمين أمام عسكرة خطاب الحكومة والمعارضة التى بات حديث ممثلى الأولى وقيادات الثانية عن الجيش والسلاح الألمانيين شبه يومى. على سبيل المثال، خرجت وزيرة الدفاع الألمانية فى ليلة رأس السنة الجديدة ٢٠٢٣ وعلى وسائط التواصل الاجتماعى بتحية للجيش والجنود وسمع فى الفيديو القصير دوى الألعاب النارية التى تصخب فى ألمانيا دوما فى ليلة ٣١ ديسمبر. دوى الألعاب النارية هذا، وهو من أكثر الأمور اعتيادية وأريحية، أزعج المعارضة ممثلة فى رئيس الحزب المسيحى الديمقراطى ورئيس الحزب المسيحى الاجتماعى لكونه لا يتناسب مع جدية التوجه بالتحية إلى الجيش والجنود ومن ثم طالبا بإقالة الوزيرة. والحقيقة أن فى توجه الوزيرة بتحية للجنود مبالغة غير مسبوقة لأن التحية تأتى لعموم الألمان والمقيمين من الرئيس الفيدرالى ومن المستشار، مثلما تدلل المطالبة بإقالتها لسماع دوى ألعاب نارية على انزلاق النقاش العام فى ألمانيا إلى مواضع خطيرة تصير بها الحرب مسألة اعتيادية وتتشابك بها التصريحات عن اللائق بالجيوش والجنود مع الحديث الرائج اليوم عن ضرورة إرسال دبابات متطورة ونظم صاروخية حديثة إلى أوكرانيا.
هذه انزلاقات ألمانية خطيرة ومقلقة للغاية.