قفز الرَّجُل مِن مقعده تاركًا عجلة القيادة، لم يتجه مباشرةً إلى الميكروباص الذي وقف على بُعد أمتار قليلةٍ منه، بل إلى صندوق عربتِه؛ فتحَه والتقط على الفور قضيبًا معدنيًا سميكًا رفعه في الحال عاليًا، وانطلق صَوْبَ السائق الآخر الذي غادرَ بدوره الميكروباص، وبدا مُتحسبًا للمعركة. كانت سيارتاهما واقفتا بعرضِ الشارع الضَّيق، وكأنهما تعرضتا للصِدام ودارتا بزوايا حادة واستقرتا على الوَضع الجديد؛ ليصبح مُرور السيارات الأخرى المُحتَجَزة وراءهما مُستحيلًا.
***
ظهر الغَضَبُ جليًا على الوَجهين، يكاد يقفز مِنهما قبل أن يتلاقى الجسدان، وقبل أن ينضمَّ إلى المَعركة سائقو الميكروباصات التي تزامَن مرورها مع وقوع المُشادة؛ فتوقفت على الفور لمؤازرةِ الزَّميل في مِحنتِه، والتعبير عن التضامُن الوَاجِب معه.
***
تناثرت النداءاتُ وانطلقت الشتائمُ مُتداخلةً زاعقة؛ المُبتكر مِنها وشائع الاستخدام، فيما راحت امرأةٌ متوسطة العمر تصرخ مِن نافذة العربةِ الأولى على حاملِ القضيب وتناديه أن يعود؛ وقد بدا أنها زوجه.
***
يستخدم الناسُ قاموسًا واسعًا مِن الألفاظِ والعباراتِ للتعبير عن غَضَبِهم؛ كلمات لا أول لها ولا آخر يمكن العثورُ عليها في هذا القاموس؛ قد تقول الأمُ عن طفلها أنه "غضبان"، ويستخدم الكاتبُ المُحنَّك في نصّه كلمة "حانق" وربما "ساخط"، وتصيح امرأةٌ فاضَت بها الهُموم: "مش طايقة"، ويتساءل رجُلٌ استبدَّ به الضيقُ والكلَلُ: "أشق هدومي؟"، وفي العادة نقول جميعًا أننا "متنرفزين" كي نصِفَ حالًا لم تعُد وسط الضُغوط المُتزايدة بنادرةِ الحدوث. ما بين العاميةِ المِصريةِ والعربيةِ الفُصحى تعبيراتٌ مُتنوّعة؛ يحمل بعضُها قدرًا مِن التمَاثُل ولبعضِها الآخر طابعٌ شديد الخُصوصية.
***
ربما لا تتساوى مُترادفاتُ الغَضبِ فيما تترك مِن انطباعٍ لدى مُتلقيها، لكن الموقفَ وانفعالاته لا يتركان سِعةً للانتقاءِ والتدقيق، كما أن مُرونةَ اللغة وعفويةِ الاستخدام قد تُتيحان لمُفردةٍ أن تحِلَّ مَحَلَّ أخرى، دون أن يتخلخلَ البناءُ اللُغوِيّ أو يتغير الوَضع كثيرًا.
***
لا يحوي القاموس الشامل لفعلِ الغَضَب كلماتٍ مَنطوقة أو مَكتوبة فقط؛ إنما يتطرق إلى لُغة الجَّسدِ أيضًا. ثمَّة إيماءاتٌ عديدةٌ قد تجد طريقَها إلى ملامحِ الوجه والأطراف؛ فتصبح كافيةً بذاتِها وتنتفي الحاجةُ في وجودِها إلى استخدام الصَّوت. ربما يُلوّح الغاضبُ بيده؛ وتلك وحدها إشارةٌ مُعبأةٌ بالمعاني والترجمات، أو يُحدق مليًا فيمن أغضبه دون أن يحيدَ بنظرتِه، وقد يزمُّ شفتيه ويقطبُ الحاجبين وكأنه على وشك انتهاج مَسلكٍ عنيف، أما إذا خرجَ الصوتُ؛ فعلى الأغلب ترتفع شدَّتُه وتخشوشن نبرتُه، وأخيرًا قد يَسبُّ الغاضبُ ويصبُّ اللعناتِ على مَن أثار حفيظتَه وأوصله إلى تلك الحال.
***
في الشوارع مُتَّسع للاطلاع على محتويات القاموس ومُشتملاته التي تتبدل بين الحين والآخر، وتتطوَّر تبعًا للسياق، والوقتُ الأمثلُ لمُتابعة التطوُّرات؛ هو ولا شكّ ساعات الذروة التي تقفز فيها مُعدَّلات الاستثارة إلى حدها الأقصى، ويُصبِح كلُّ شخصٍ على حافةِ الانفجار؛ تكفيه همْسَةٌ أو لَمزةٌ كي يفقد السيطرةَ على نفسِه، وتنفلت أعصابُه ويُطلِق لغرائزِه الأوَّلية العنان.
***
للعجب؛ لم يكُن سائقُ الميكروباص هو الأكثر غضبًا وعدوانية كما توقع بعضُ مَن تجمَّعوا للمشاهدة. لاح شابٌ صغير السنّ، مُمتلئ الجسم إلى حدّ لافت، له وجه طفوليّ لم تفلح علاماتُ الغضبِ في إكسابِه الشراسة المَطلوبة، ولمَّا لم يجد مِنه زملاؤه الذين توافدوا لنجدته الحماسةَ المَطلوبة لدخول مَعركةٍ حقيقيةٍ؛ بما خَفَّ وثقُلَ مِن أسلحة، تراجع أغلبُهم وتحوَّل مِن حالِ الغَضَب العارمةِ إلى حال تطييب الخواطر: "استهدوا بالله يا جماعة.. حصل خير".
***
انفضَّ الجمعُ بعد دقائق، دلفَ الرجُلان كلٌّ إلى عربته، ومَضى في طريقه وكأن شيئًا لم يحدث، بينما تدفَّقَت السياراتُ المُحتجَزة في أثرهِما، وعادت للشارع حركتُه العادية.
***
بعضُ الأحيان لا يظهر الغضبُ في قولٍ أو يندلع في فعلٍ، إنما يُمكن الشعور به؛ كامن في الأحشاءِ بينما السطح هادئٌ، باردٌ، ومُستقر. نقول كلما طال الوقتُ وتأخرت عن توقعاتنا ردةُ الفعل: "اتق شرَّ الحليمِ إذا غَضب"، والقصد أن هذا الذي يصمتُ طويلًا يأتي غضبُه عظيمًا، لا حسابات تقيده ولا حدود تصمد أمامه أو تعوّقه.