تمثل رواية «يعقوب» التى أصدرتها دار الشروق للمؤرخ الدكتور محمد عفيفى مفاجأة كبيرة لمن يعرفونه كأستاذ مرموق للتاريخ الحديث والمعاصر، نال هذا العام جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية.
وعلى الرغم من أنها أول رواية يكتبها، إلا أنها تفادت الكثير من عيوب العمل الأول، والسبب الرئيس الذى يفسر ذلك هو أن الادب ظل لسنوات من المصادر الرئيسية لعمل المؤرخ الذى كان يدفع تلاميذه ــ وكنت منهم ــ للاهتمام بهذا الجانب
والسبب الثانى أن المؤلف «لعب فى المضمون» أى فى العالم الذى يعرفه جيدا واختار شخصية غنية درامية ليكتب عنها وهى شخصية «المعلم يعقوب» المغامر القبطى الذى رافق الحملة الفرنسية عند خروجها من مصر وكان صاحب تطلعات كبيرة فى الثروة والنفوذ والرغبة فى التلذذ بمباهج الحياة.
وليست هذه المرة الأولى التى تثير شخصية يعقوب مخيلة الروائيين فهو حاضر فى الأعمال التى كتبها الأستاذ صنع الله إبراهيم عن الحملة الفرنسية وحاضر أيضا فى رواية يذكرها المؤلف لمخرج الوثائقيات شريف سعيد وكذلك يبدو يعقوب بطلا فى بدايات رواية «غيوم فرنسية» للكاتبة ضحى عاصى التى اتخذت خروجه دافعا دراميا لتشيد عالما يتقصى أحوال الجنود الذين خرجوا معه إلى فرنسا وقد بنت عاصى عالمها كله على الشق المتخيل وتجنبت مأزق تناول الشخصية وما أثير حولها فى كتابات المؤرخين، فى حين سعى المؤرخ محمد عفيفى لاستثمار هذا الجدال بالتحديد واستعماله كمادة خام فى رواية تنهض بصورة رئيسية على هواجس مؤرخ يرغب فى تأمل سيرته الذاتية وإجراء مراجعة لها لذلك استعمل الكثير من تقنيات كسر الإيهام وأتاح لنا جملة من الشخصيات تحضر فى نسيج العمل باسمائها وملامحها الحقيقية.
لم يشأ عفيفى أن يكتب سيرته بصورة مباشرة تحد من الخيال وتدفعه دفعا لتناول وقائع لها طابع توثيقى وأغرته الرواية بقدرتها على التعامل مع أكثر من زمن سردى يلبى حاجته لإثارة خيال القارئ عبر استعمال حكاية مشوقة.
واستوعبت هذه الحكاية حاجته يطرح أسئلة جرئية حول الذات والواقع وتجارب العمل والسفر والحياة بل تخطت حواجز كثيرة فى كسر قداسة الشخصية واظهار ضعفها الإنسانى بل ورغباتها المثلية كذلك.
وإذا كان طه حسين قد استعمل قناع «الفتى» فى كتابه الشهير «الأيام» الذى كان أول سيرة ذاتية نعرفها فى الأدب العربى فإن عفيفى يستعمل قناعا آخر لـ«التلميذ» الذى يتجلى فى الرواية كراوٍ عليم يمسك بخيوط العالم الذى يرغب فى إغراء القارئ باقتحامه.
وتجلت حكمة المؤرخ داخل الرواية فى عدة وجوه، أولها أنه كتب نصا قصيرا جدا مكنه من تفادى الترهلات التى يمكن أن تؤثر على قوام العمل الأول والثانى أنه كتب عن العالم الذى يعرفه، وتجنب فخا آخر يثار دوما عند الحديث عن العلاقة بين الأدب والتاريخ ومدى استفادة الراوى من التاريخ كمادة خام واتاح قناع الروائى للمؤرخ فرصة المراوغة وتجنب الفخاخ.
تبدأ الرواية بحوار بين التلميذ الذى يحكى لاستاذه تجربة انفجار إحدى كنائس شبرا فى اوائل ثمانينيات القرن الماضى وخلال الحوار يبدى التلميذ رغبته فى الكتابة عن تاريخ الأقباط وبالفعل يتاح له ذلك ومن خلال إطلاعه على وثائق الكنيسة القبطية يجد الوثيقة التى تثير خياله فى تتبع سيرة يعقوب وهو وثيق منعه من دخول الكنيسة بعد أن اقتحم حرم البطرك ومنها يواصل سرد التجربة.
يوزع عفيفى أزمنة السرد بين زمنى آنى يعيشه التلميذ وزمن آخر هو زمن يعقوب الذى يخاتل التلميذ ويأتيه فى الأحلام وزمن جديد هو زمن تحول التلميذ إلى أستاذ يأتى إليه الروائيون الراغبون فى التفتيش عن الشخصية ذاتها والكتابة عنها.
وبين تشظى تلك الأزمنة تكمن الرواية المضمرة التى لا تكف عن طرح الأسئلة الشائكة فى الواقع، فالعين الساردة تسخر من جميع البنى السلطوية والتراتبية البطريركية سواء كانت موجودة فى الجامعة أو الكنيسة وكل مؤسسات الدولة، فالراوى من المكتب العتيق الذى يجلس فيه الأستاذ ومن المكتبة التى تحولت لمقبرة كتب محاطة بالغبار ويسخر من تحول موكب البابا لموكب سياسى أكثر منه موكب رجل دين ويستعمل السخرية التى كان يتمتع بها البابا بطريقة تذكر بحديث ميخائيل باختين عن الكرنفالية لفضح هذه التراتبية السلطوية وفضها.
وكعادة المؤرخين يتجلى الهوس بإجراء المقارنات بين بساطة مبانى البطركية القديمة والكاتدرائية الحالية، بين بساطة مكتب كيرلس السادس وفخامة الموكب الحالى. كما لا يكف عن المقارنة بين أنماط التعليم فى الخارج وبينها فى الداخل والأهم هو طريقته فى النظر لشخصية المعلم يعقوب خارج منطقة «الأبيض والأسود» والنظر فى تحولاته دون تورط ايديولوجى فقد حررها من النمط وأتاحها كنموذج روائى لمن دخلوا «جنة المخالفين» ورفضوا الطاعة.