حزمة الأخبار التى نُشرت فى الأسبوعين الماضيين عن الفساد ملفتة، ومروعة فى آن واحد. فساد كبير بالملايين كما هى الحال مثلا فى قضية «القمح»، وسرقة مئات الالاف من الجنيهات من خزينة عامة فى أماكن حكومية، وبعضها شرطى، وآخرها بالأمس القبض على مديرة بنك سرقت ثلاثة ملايين جنيه من حساب أحد الأشخاص.
نهب ليس بقليل، وهو ما يدخل فى علم السياسة تحت اسم «الفساد المنظم» أو «الفساد الكبير»، الذى لا يعبر عن وجود فساد فى إدارة، ولكن فى قيام إدارة بأكملها على إدارة الفساد، كما هى الحال فى قضية «القمح»، والذى من المنتظر أن تحمل تفاصيل أخرى كلما توغلت التحقيقات فيها. بالطبع من الجيد الكشف عن حلقات الفساد، ما ظهر منها وما بطن، فهذه شهادة على أن هناك رغبة رسمية فى مكافحته، لكن هذا لا يمنع أن الرسائل التى تصل إلى المواطن العادى مفعمة بالإحباط دون شك، وفقدان الثقة العامة، وتسهم فى اضطراب المزاج الجماهيرى، ولاسيما فى وقت يرتفع فيه لهيب الأسعار، وتلوح فى الأفق إجراءات أكثر تقشفا على درب الإصلاح الاقتصادى.
والفساد الكبير يرافقه «فساد صغير» فى كل مفردات الحياة، يضطر المواطن أن يدفعه للحصول على خدمة أو تسريع وتيرة الحصول على خدمة أو جريا على ممارسة باتت ترتقى إلى مرتبة العرف بأن هناك «إكرامية» ينبغى أن تدفع للحصول على خدمة حكومية، وفى بعض الأحيان تقل المصروفات أو الرسوم المفروضة على الخدمة ذاتها عن «الإكرامية» التى تدفع لتسهيل الحصول عليها.
المواطن العادى محبط، وليس من الحصافة تجاهل مشاعره أو عدم تقدير أهميتها. فى قطع السيدات الطريق للاحتجاج على عدم توفر «لبن الأطفال» رسالة مهمة ينبغى التقاطها، والتوقف أمامها. وفى تصريح وزير الصحة بأن هؤلاء سيدات مندسات خروج على مقتضيات حسن التعبير والكياسة، وقواعد السياسة، وهو ما ينبغى أن يحاسب عليه. تدخل القوات المسلحة بتوفير عبوات لبن الأطفال نزع فتيل الأزمة، مثلما تتدخل فى مجالات غذائية أخرى، وهو أمر مقدر تفرضه الضرورة، لكن لا يعفى أن هناك قطاعات فى الدولة لم تقم بعملها أو قامت به بأداء منخفض باهت.
يستدعى ذلك نقاشا، وتقييما، ومساءلة لحال جهاز الدولة، وقدرته على تقديم الخدمة بالكم والكيف المطلوبين، ويصير السؤال: لماذا كان تحرك القوات المسلحة سريعا وناجزا، بينما لم تتحرك مؤسسات الدولة الأخرى على ذات المستوى؟
بالطبع الأزمات الاقتصادية لا تُحل بين يوم وليلة، وتقتضى اجراءات قاسية بطبعها، وهو ما يتطلب أن يكون المواطن على بصيرة ووعى، ويرى أن هناك إصلاحا سياسيا واجتماعيا يواكب الإصلاح الاقتصادى، مما يجعله يتحمل المعاناة الاقتصادية نظير النوافذ الاجتماعية والسياسية التى تفتح أمامه. الخوف من أن تؤدى المعاناة الاقتصادية فى ظل عدم كفاية برامج العدالة الاجتماعية، والنضوب السياسى إلى ضجر من جانب المواطن، وتتحول المعاناة الاقتصادية إلى احتجاج سياسى، عشوائى أو منظم بواسطة قوى سياسية، ونصبح مرة أخرى أمام أسئلة صعبة، وإجابات أصعب.