أنباؤنا كثيرها لا يسر، وأغلبها يتطلب جهدًا للاحتفاظ بهدوء الأعصاب، وقليلها يمر دون تنغيص المزاج، وبعضها يتكرر في صور متنوعة ليمثل ظاهرة ضمن ظواهر عابرة، لا نعطيها حقها ولا نوفيها ما تستوجب من اهتمام؛ إذ تتوالى علينا النوائب والمصائب فلا تترك وقتًا ولا مساحة للرؤية.
•••
من بين الظواهر التي حلت خلال الأسابيع الماضية، اعتداءات أولياء الأمور على المدرسين والنظار؛ تلك التي طغت على الأنباء المتداولة لفترة وجيزة، حتى أصبحت خبرًا شبه ثابت في الصحف لأيام متوالية. هناك وليّ الأمر الذي ضرب مدرسًا منعه من دخول مدرسة نجلته عنوة للتعرف على مدرسيها، وهناك وليّ الأمر الذي ضرب مُدرِّسة وجذبها مِن شعرها لأنه أراد تسكين ابنه في الصف الأول بالفصل. تعددت الأسباب التي لم تخرج في مجملها عن المعتاد، لكن غضب أولياء الأمور بدا حاضرًا، فوريًا وعنيفًا؛ لم ينجُ منه مُدرِّس رجل ولا سَلِمَت منه مُدرِّسة امرأة.
•••
في مشاهد عنفٍ موازية، كان هناك ركاب يحاولون الاعتداء على سائقي وسائل المواصلات الجماعية -والعكس أيضًا صحيح- بعد رفع التعريفة، وزبائن يحاولون الاعتداء على موظفي الجمعيات العمومية بعد محاولات فاشلة لإبدال البضائع المفروضة عليهم بأخرى ناقصة أو غير موجودة، ومرضى وذووهم يشتبكون مع الأطباء والممرضين لغياب الرعاية واختفاء الدواء. كانت هناك مشاجرات واشتباكات في مواضع مختلفة ولا تزال، بين زبون ومُقدِّم خدمة على اختلاف الخدمات وتباينها.
•••
القاسم المشترك في هذه المعارك الصغرى، عدم رضاء الناس عما يحصلون عليه مقابل ما يدفعون مِن مبالغ مالية؛ ضئيلة لكنها بالنسبة إليهم عظيمة الشأن، تختصِم قسمًا مُوجعًا مِن رواتبهم التافهة الهزيلة. الأغلبية العظمى تبدو مُضطرة إلى الوقوف في طابور الجمعية المنفلت معظم الأحيان، وإلى الاصطفاف أمام أكشاك الخبز لفترات طويلة، وإلى استخدام الميكروباص أو وسائل النقل العام المهينة إلى الحدود القصوى، وكذلك إلى اللجوء للمستوصفات والمستشفيات العامة. الأغلبية ليس أمامها سوى مدارس الحكومة؛ تلقي بأولادها فيها وتنتظر ما يردُّ إليها القدر.
•••
ثمَّة غضبٌ كامن في النفوس، يخرج في صورة عنيفة كلما وجد سبيلا، والأزمة ليست في تنامي الغضب وتصاعده بل في ارتباك بوصلته وإساءة توجيهه، خاصة وموجة جديدة من المنغصات تلوح في الأفق مع مواصلة خفض دعم الوقود وربما إلغاءه تمامًا، الأمر الذي سيقضي بالتالي على أية محاولة للتوازن تقوم بها الطبقة المتوسطة، إضافة إلى إحكام الخناق على الطبقة الدنيا.
•••
لا المعلمون يستطيعون تسكين التلامذة جميعهم في الصفّ الأول، ولا النُظَّار يمكنهم قبول أعداد تتجاوز طاقة استيعاب الفصول بعشرات، ولا سائقو الميكروباصات قادرون على مجاراة ارتفاع أسعار الوقود مرة تلو المرة، ولا موظف الجمعية هو الحاكم بأمره الذي يجلب سلعًا ويمنع أخرى. ليس أولئك وهؤلاء بالمسئولين الذين تحقُّ مواجهتهم بعنف وتنفيث الغضب في وجوههم، المسؤولون الحقيقيون جالسون على مقاعدهم، يوزعون تصريحاتهم الوردية؛ ينفون وجود أزمات من أي نوع أو يطلبون من المواطنين تحمل المشاق في سبيل الوطن. يحثون الفقراء على الصبر والتقشف بينما يغترفون مما لذَّ وطاب. يتحركون بمَواكب مُهيبة فيما الناس أسفل أقدامهم يتطاحنون.
•••
يضرب الطفل رأسه في الحائط ويتمرغ أرضًا عند الغضب. يبكي ويصرخ عاليًا. جزءٌ من ضيقه الشديد وانفجاره أنه غير قادر على الانتقام ممن أغضبه خاصة لو كان أحد والديه أو معلميه، ولو تُرِكَت له فرصة مَأمونة العواقب لأفرغ مشاعره في مكانها الصحيح، ولكفى نفسه شرَّ الغيظ والحنُق، وامتنع عن إيذاء نفسه واستبدل بها مَن أذاه.
•••
خطوة أولى هي الإحساس بأن ثمة ما يسوء وأن الغضب ضرورة. الثانية هي تحديد منبع الغضب ومصدره بوضوح، الثالثة هي حسن إدارته وتنظيمه والابتعاد به عن العشوائية والتهور تجنبًا لنتائج عكسية، أما الرابعة والأخيرة فإطلاقه في مواجهة من يستحق، لا ضدّ أضعف أو أفقر أو أقل مكانة، لا ضدّ أنفسنا ولا بين بعضنا البعض.
•••
يعي الطفل أن محاولة رد الإساءة التي يظنها لحقته قد تأتي بمزيد من النتائج السلبية، كما يدرك في بعض الأحيان أنه ارتكب خطأ ما نال بمقتضاه العقاب، وهو يرى في الوقت ذاته ضآلة حجمه وقوته، تلك عوامل تسهم في رسم مآل ثورته العاتية التي لا تجد لها طريقًا مُحددًا؛ تتبخر بعد قليل في الفضاء وتغدو رمادًا وكأنها لم تكن.
•••
لا أستدعي نموذج الطفل وغضبه إلا كي أنفيه. لسنا بمجتمع من الأطفال يصرخون كلٌّ في وجه الآخر أو في الهواء، والمنطق السوي يقضي بأن نحاسب ونعاقب من يخطئ في حقوقنا من المسئولين دون استثناء. الحاكم وحكومته ليسوا في مقام الوالدين، بل في موضع مسائلة واختبار، فإن أظهروا فشلا أو عجزًا أو فسادًا، جاز الغضب عليهم ووجب.