أكتب عن هذه الظاهرة بامتعاض شديد، وهى موجودة فى بلادنا منذ نصف قرن ساعدت فى تحطيم المقدسات البالغة الأهمية فى حياتنا، خاصة فى مجال التعليم الذى يجب أن نمر به جميعا لسنوات طويلة يتم فيها تكويننا العقائدى والثقافى والاجتماعى، ويكون فى حياتنا قدوة أو أكثر منهم العاملون بالتعليم سواء المعلم أو المدير أو الناظر، فإذا بالفن يتكالب لهدم جميع ما تعلمناه بقوة من خلال أكثر من عمل فنى مغموس بقدر كبير من العسل أو الضحك، إنها مسرحية «مدرسة المشاغبين»، والفيلم السافل الذى يحمل الاسم كتبه نفس المؤلف وقام ببطولته كبار نجوم السينما فى تلك الفترة علما أن المسرحية صنعت من ممثليها النجوم الأكبر فى جميع مجالات الفن، ما شجع على تفاقم لظاهرة الإفيهات السيئة التى نعيشها، فقد بدأت بتكسير الهالة الكبرى التى كنا نحتفظ بها لكل من هو قدوة
بدأت الظاهرة فى السينما البريطانية عام 1967، من خلال فيلمين هما «إلى سيدى مع حبى» إخراج وتأليف بيتر جلنفيل، وهو الفيلم الذى عرض فى مصر باسم «مدرسة المشاغبين»، وفيلم «الصعود من سلم الهبوط» إخراج روبرت موليجان، وكما هو واضح تتضح المعانى التربوية للفيلم من العناوين، الفيلم الأول حول مدرس ينجح فى تهذيب أخلاق تلاميذه الشباب ويغير من مواقفهم وسلوكياتهم، جسد الدور سيدنى بواتييه صاحب جائزة أوسكار، والفيلم الثانى قصة مقاربة، حول مدرسة تفعل الشىء نفسه جسدته ساندى دينيس التى فازت أيضا بجائزة أحسن ممثلة مساعدة
هناك أغنية فى الفيلم الأول تحية للمعلم غنتها لولو، من أجمل ما سمعنا فى حياتنا، علما أن سيدنى بواتييه قام بدور تلميذ مشاغب فى فيلم باسم «سبورة الأدغال» إخراج ريتشارد بروكس 1955، وكل الأفلام الأجنبية مأخوذة من نصوص أدبية، أما الأفلام المصرية فمسروقة ثم ممسوخة، كما نشير إلى ذلك، بما يعنى أن الموضوع التربوى يؤرق الفنان نحو الأفضل فى الغرب، وأننا نحول الموضوعات السامية وكأن أخلاقنا مزروعة فى المجارى.
إلى أن طلعت علينا مسرحية «مدرسة المشاغبين» بكل قنابلها الأخلاقية التى نسفت المفاهيم، ولم تكن السخرية من المدرسة بل أيضا من جميع من يعملون فى سلك التعليم، وأيضا الآباء الذين يتمتعون بثراء ملحوظ ومكانة، ورأينا التعبيرات الجنسية للتلميذ الذى يمزق ملابس الأستاذة.
هناك ملحوظة أن التلامذة الأجانب كانوا صغار السن فعلا، أما تلاميذنا فقد تجاوزوا سن الثلاثين، وكلهم فى الواقع يكبرون أبلة عفاف بسنوات.
فى عام 1971، وما بعدها تم اقتباس الفيلمين فى السينما المصرية، الثانى باسم «مدرسة المشاغبين» 1973 إخراج حسام الدين مصطفى أكثر مخرج يثار حوله الجدل بسبب تباين مستويات أفلامه، أما الفيلم الأول فهو باسم «مدرستى الحسناء» بطولة هند رستم وممثلين تجاوزوا أيضا الثلاثين فى أدوار التلاميذ، إخراج إبراهيم عمارة أحد أكثر مخرجينا اهتماما بالأخلاق.
نعرف كم غيرت المسرحية من أفكار الأجيال، وأقول وجدانهم لأن ما فعلته المسرحية شرخ الكثير فى وجدان سليم، وفى كل هذه الأعمال لم نر إلا محاولات متعمدة أن نلعق العسل مغموسا بالفيروس، فلماذا لم يلجأ الفيلم الإنجليزى إلى الجنس مثلا، أو التنكيل بالمدرسين، ففى فيلم جلنفيل كانت أمور التعليم فى الفصول المجاورة عادية، وفى المدرسة المصرية كان هناك فصل به خمسة من التلاميذ الفاشلين البلطجية بكل المعنى، أبناء أغنياء عدا واحد منهم، وواحد ابن الناظر، واثنان يأتى والد كل منهما لشراء المدرسة لحساب ابنه بعروض مغرية كثيرة، لكن ما استفزنى هى المشاهد الجنسية التى تدور فى مخيلة التلاميذ الذين وقعوا فى غرام المدرسة التى تغريه وتنزع له ملابسها داخل الفصل، ويتكرر الأمر مع تلميذ آخر هو لطفى، وكأن هؤلاء الشباب هم عصارة الوطن، لاحظ أن الأفلام تم إنتاجها ونحن فى سنوات اللاحرب واللاسلم.
الأفلام الأجنبية تتعامل مع الموضوع بجدية بعيدا عن السخرية فالفصول فى الأفلام التى أشرنا إليها بها العدد الطبيعى من الطلاب بنات وصبيان، وفى الفيلم المصرى والمسرحية كان عدد التلاميذ هو الخمسة، أعمارهم تعادل فصلا بأكمله من الطلاب، وفى «مدرسة المشاغبين» كان الكبار شخصيات مؤهلة للسخرية عدا المدرسة، ويمكن أن نتقبل هذا العدد فى المسرحية، لكن الفصل فى الفيلم يبدو خارج المألوف، أما التفاصيل فهى مثيرة للقرف والاشمئزاز، وأنا لا أتحدث كناقد، لكننى عشت أجواء التلمذة فى المدارس والجامعات طالبا ثم محاضرا، ولم أقابل قط أشخاصا من هذا الطراز، وعليه فإن مثل هذه المعالجات لنصوص جيلنا بمثابة وصمة عار أعجبنا بها حين يتكرر عرضها فى المناسبات، وصارت مع السنوات أمورا مألوفة يعد انتقادها شذوذا، كأن نسخر من الأستاذ والناظر، بكل وقاحة، لذا تكسرت مهابة العلم مع مرور الوقت، ووصلنا إلى الحال الذى نحن عليه، نتعامل مع أبطالها الخمسة على أنهم الأنموذج، وقد صدمنى دوما تغيرات المؤلف على سالم الذى اقتبس المسرحية، ففى مرحلة لاحقة كان أبرز مثقف ينادى بالتطبيع، ولا يتحرك عن موقفه قط، والغريب أنه لم يفخر أبدا بكتابة هذا العمل الجماهيرى.
أسوأ ما فى الأمر أننا لم نر المدرسة ككيان تعليمى اجتماعى، ولا العملية الدراسية، بل هى مجرد غرفة تدور فيها الأحداث، يستعملها الطلاب كمقهى لتداول الشيشة والسجائر، ولعب البوكر، والسخرية من المعلمة التى لم نرها تقوم بالتدريس سوى طرح أسئلة ساذجة من أجل تخليق النكات، والإيفيهات مثل: ما هو المنطق، وأجزم أنه ليس فى حياتنا مثل هذا الناظر الهزء الذى يكرر تحقيره لتلميذه الفقير، يبدو مثل النساء بأداء سخيف للغاية وهو يقول «يادلعدى»، بما يعنى أنه كان فى طفولته قبل ثلاثين عاما أى فى الأربعينيات فى مدرسة مماثلة أفرزته، كما لم نعرف أبدا مدرسا مثل علام، الذى أصابه الهوس ولا يزالوا محتفظين به.
وهذا هو الفارق، فالتلاميذ فى المدارس الأجنبية كما فى الأفلام، مشاغبون، لكن التلاميذ فى المدرسة المصرية متشردون، خارجون عن القانون، وفى الفيلم مشهد للأباصيرى يدفع والد زميله بكل شراسة، والمفروض أننا نضحك، لكن سرعان ما يهتم المدرس الأجنبى بمشاركة التلاميذ مشاكلهم حتى تسير الحياة.
خلاصة ما يقال إننى أتمنى إلغاء هذه الأعمال من حياتنا تماما كأنها لم تكن، ألف لعنة على المصطلحات التى تنادى بحرية التعبير، إنها حرية إفساد أخلاق الشعوب، لأنه إلا المعلم والأب، وكلاهما تحطمت كرامته فى الفنون، وشاهدناها مرارا على الملأ ولا عزاء لقراءة مثل هذه الأعمال.