لم يَأتِ بَعد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لم يَأتِ بَعد

نشر فى : الجمعة 6 نوفمبر 2020 - 10:00 م | آخر تحديث : الجمعة 6 نوفمبر 2020 - 10:00 م

في مَشهدٍ ينتمي إلى خانةِ الكوميديا السوداء، يتراقصُ المواطنُ الغارقُ حتى صَدره في بالوعة صَرفٍ مَسدودة؛ مُعلِنًا أن الحياةَ: "بمبي". المواطنُ مَغلوبٌ على أمرِه، حالُه من حالِ كثيرين؛ حظوظهم في الدنيا قليلةٌ ومُتعهم مَحدودة. يَطلَب منه المذيع أن يتمايلَ في سعادةٍ فيتمايل، ويُملي عليه عباراتِ الرِّضا فيردِّدها وراءَه؛ ليحظى في نهايةِ الأمر بجائزةٍ مِن البرنامج.
***
يُدرك المُواطِنُ أنه يتظاهر بالبهجةِ فيما حياته كئيبةٌ بائِسةٌ، يَعرف جيدًا أنَّ مَن يَرَوْنه على الشاشةِ لا يُصدِّقون ما يَفعل أو يَقول؛ لن يُقنعَهم وهو نفسُه غير مُقتنِع؛ إنما هي الحاجةُ والضرورة.
***
بعضُ الناسِ يُؤدون أدوارًا مُشابهة لدورِ الفنان فؤاد خليل في فيلم: "جاءنا البيانُ التالي"؛ لكنهم أعظم يأسًا وأمهر تضليلًا؛ إذ يُقنعون أنفسَهم بأن الحالَ في البالوعةِ على خَيرِ ما يكون؛ دون أن يسألَهم أحدٌ أن يتزيَّنوا أو يضعوا الرُّتوش. يؤكِّدون في غير مُناسبةٍ أن السعادةَ غامِرةٌ مُتفَشِّية، ويُحاولون إقناعَ الآخرين رغم الأدلة والشواهد التي تعكس النَّقيضَ، ورغم علامات الترَدّي والانكسار التي تفوقُ الاحتمال. أغلب الظنّ أن نوايا هؤلاء ليست خبيثةً، وأغراضهم لا تتعدى الدفاع المشروع عن النفس؛ فمتى حَلَّ اليقينُ بأن كربًا لن يتبدَّل وأن سوءًا لن يتحسَّن، بات على المَرءِ أن يجدَ لمأزقِه مَخرجًا، وكلَّما مَرَّ الوَقتُ بلا نتائج؛ سعى المأزومُون إلى مُواساةِ ذواتِهم ولو بالكَذِبِ عليها. تُصبح البالوعةُ روضةً والرائحةُ الكريهةُ عطرًا.
***
أناسٌ كثيرون انتظروا أن يأتي ذات يَوم "الأفضلُ"، ثم اكتشفوا أن أعمارَهم تقدَّمت وبلِيَت، وأن الأجلَ صار قريبًا دون أن يأتي شيءٌ؛ وذلك أمرٌ مُخيف. اختاروا هربًا مِن مُواجهةٍ مُوجعةٍ أن يروا الواقعَ على غير حقيقتِه وأن يؤمنوا بروعتِه: ما يحيَون الآن عظيمٌ، بل هو "الأفضلُ" الذي طمحوا إليه؛ بعينِه وشحمِه ولحمه. آخرون تربوا على أن الاجتهادَ يأتي حتمًا بالثِّمارِ الطيبةِ؛ لكن الثِّمارَ لم تلبث أن تساقطَت في أيادي لم تجتهِد أبدًا؛ مُتجاهلةً أياديهم. تصوَّروا أن في الأمرِ خطأً غير مَقصود، وأن المأدُبةَ مَفتوحةٌ للجَّميع وبوسعِهم الانضمام إليها متى شاءوا؛ وإذ أدركوا الواقع المُؤلمَ، فَقَدَ بعضُهم عقلَه وشَتَّ، والبعضُ الآخر أوردَته تصوراتُه مَورِدَ هلاكٍ أكيد، ومِنهم مَن أفاق مِن صدمتِه؛ فعضَّه على ما فات الندمُ، وافترسَته الشُّجون.
***
قِيل إن مَن جَدَّ وَجدَ ومَن زَرعَ حَصد. مأثورٌ عَظيمُ الأملِ وافرُ الحماسةِ؛ لكنه لا يُراعي الدِقة. لا يُحدِّد متى يكون الحصادَ، ولا بأي وسيلةٍ يجني الناسُ نتائجَ اجتهادِهم؟ لا يُنَبِّه المَأثورُ مُتلقيه إلى أن الأمرَ قد يتأخَّر، وأن مَوعِدَ النهايةِ السعيدة قد يكون بعيدًا، وأن فوزًا معنويًا يتحقق خلال خطوات الرحلة؛ ربما هو المقصود.
***
في حُقبَةٍ ماضية؛ تَشَابَه يومُها مع أمسِها وصباحُها مع مسائِها؛ غشي الناسَ المَلَلُ حتى رَجوا أيَّ تغييرٍ؛ يُبَدِّد الرتابةَ التي اعترت أرواحَهم، ويدفعهم إلى مُواصلةِ الطريق؛ لكنهم لتكرار الأفعالِ والأقوالِ والأحداثِ، وتناسخ الإيماءاتِ والإشاراتِ والهَمهَمات؛ استبعدوا أن تشهد حيواتهم أمرًا مزلزلًا. انقلب الميزانُ في غَمضةِ عيَن، واهتزت الأرضُ، وعاودتهم باهتزازاتها الآمالُ؛ لكنهم سُرعان ما اصطدموا بحقيقةٍ من البداهةِ حتى لتخفى على الإدراكِ، ومِن البساطةِ حتى لتستعصي على التفكير؛ فما كان هو ما استمرَّ، وما استمرَّ لن ينجلي في يومٍ، والأعمارُ قد تفنى قبلَ أن تُشبِعَ أصحابَها وتُرضيهم.
***
"في حياتك". تعبيرٌ قصيرٌ يَردُّ به واحدٌ على آخر مُتبادِلًا معه الأمنيات الطَّيبة. يقصدُ أن يَمتدَّ به العمرُ حتى يرى أمنيتَه مُجسَّدَةً وحلمَه واقعًا؛ إذ ما معنى تحقُّق المُراد بعد زوال الوجود؟ على كل حال؛ مِن الناس من يَكدُّ مؤمنًا بأن كدَّه وكفاحَه سيُثمِر للقادمين، لا يهتم برؤيةِ نتاجِ ما صنعَ، ولا حتى بتلقّي بشائرِه؛ يقينه بالآتي أكبرُ من شكُوكِه في الحاضرِ، وحيلتُه في التعامُل مع الحاضر أوسعُ مِن إنكاره.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات