توقفت عن الكتابة عدة أسابيع لأنى لم أستطع أن أحل طلاسم الصراع السياسى الملتبسة، وراح بى الخيال فتصورت وأنا أتابع وقائع مسرحية الانتخابات أن بديع خيرى ونجيب الريحانى يقفزان من قبريهما ليقتبسا واحدة من أروع كوميديا المفارقة الراقية التى تستثير ضحك الجماهير الممزوج بالولولة، والهمهمة والغضب الذى يعم الشارع المصرى فى أعقاب الدورة الأولى مما سمى بانتخابات ليس فيها عنصر واقعى واحد من أى عملية انتخابية فى العالم النامى ولا أقول الديمقراطيات الراسخة.
المعطيات كلها تنبئ عن طفولة سياسة لعل أهم أسبابها الانقطاع عن الممارسات السياسية والانتخابية الجادة منذ منتصف القرن الماضى مما فوت على الأحزاب والقوى السياسية فرصة التخرج من مدرسة المواءمات والتكتيكات والصراعات بتعمق واقتدار. ويسرى هذا القول على النظام والنخب السياسية فى آن واحد.
فالمشهد كان ينبئ بما يقطع أى شك أن الحزب الذى يحتكر السلطة ويملك مقاليد الحكم ووسائل القمع والتلاعب لن يسمح هذه المرة بمعارضة جادة ومحسوسة، وكانت الرسالة واضحة لا لبس فيها فى انتخابات مجلس الشورى التى اخترع فيها سابقة لافتة هى التزوير لصالح بعض المعارضين ثم الترغيب بالمنصب لبعض الرموز. ورفض النظام مساعى الأحزاب التى شاركته فى المسرحية عن علم أو سذاجة للحصول على ضمانات من السلطة وفقا لما سمى بالوعد الرئاسى الشهير الذى يتكرر قبيل كل انتخابات طوال ثلاثة عقود.
يضاف إلى ذلك أن حزب السلطة قدم مرشحين لجميع الدوائر واكتشف ما سمى بالدوائر المفتوحة وهى إشارة لا تخطئها العين عن الرغبة الشديدة فى الهيمنة التامة نظرا لخطورة التشريعات والقرارات التى سيفرضها على نوابه بالأغلبية الأوتوماتيكية المهيمنة بلا معارضة فى الفترة المقبلة ومنها انتخاب رئيس للجمهورية. كما غاب عن المعارضة ضعف وضآلة الدور الذى يمكن أن تلعبه اللجنة العليا للانتخابات التى تنقصها الآليات والإمكانيات لممارسة عملها واستمر مصير الانتخابات تحت سيطرة إدارة الانتخابات بالداخلية ومديرى الأمن فى كل محافظة.
وفى المقابل لم يستمع الحزبان الكبيران ــ اللذان قبلا المشاركة فى الانتخابات بدون ضمانات إلى الصيحات التى دعتهما لمقاطعة الانتخابات قبل إجرائها، وفى هذا المناخ الذى تجسد فيه قرار حزب السلطة بالهيمنة على المجلس واختزال أى معارضة جادة فيه ــ لم يستطيعا أن يقدما مرشحين لكل المقاعد مجتمعين أو منفردين.
ويقضى المنطق المعتاد للعمل السياسى أنه إذا تلاقى الغريمان على طريق مواجهة وهزيمة غريم مشترك فان ألف باء الممارسة السياسة تقضى بأن يتحد الغريمان تكتيكيا حتى يحققا الهدف ولهما بعد ذلك أن يتصارعا أو يدخلا فى ائتلاف مؤقت للفوز بالحكم. وينبئ ذلك بوضوح أنهما لا يستهدفان الوصول للحكم ويقبلان اللعب في كنف النظام دون ادنى إرادة للوصول للحكم بإزاحة حزب السلطة وهو منهج مرفوض لا يقدم حلولا للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تعانى منها الجماهير.
وجاءت نتائج الجولة الأولى المضحكة المبكية فى سياق التحليل الواقعى للمعطيات السابقة، غير أن المفاجأة الكبرى جاءت من الحزبين اللذين قررا الانسحاب من الجولة الثانية، رجوعا إلى المنطق واحتجاجا على أسلوب الحزب الوطنى الممجوج فى عدم تنفيذ الأحكام ثم الاحتماء بنظرية سيد قراره فضلا عن التزوير الفاضح فى العملية الانتخابية، ويقلل حزب السلطة من أهمية هذه الخطوة فى غرور وصلف بمقولة أنه الحزب الأكثر جماهيرية والأقدر على ممارسة السلطة وأن الحزبين انسحبا من المباراة توقيا لخسارة كبيرة، نافيا التزوير ومؤكدا أن واقعات التزوير التى ضبطت تم التعامل معها وأنه لا يجب التعميم بأن الانتخابات مزورة فى كل دوائر الجمهورية.
ولا بد للقوى الوطنية أن تستبشر بعودة الحزبين الكبيرين وبعض المنشقين عن الناصرى والتجمع وذلك فى سياق الدعوة التى أطلقتها جميع القوى الوطنية بالنضال من أجل إبطال مشروعية البرلمان الذى ابتدعته السلطة بكل الطرق السلمية والقانونية، ولقد وصلت الأمور إلى مرحلة لم تعد تحتمل التهيب من أعمال القمع حيث يصمم الجميع على الخروج من مأزق عدم المشروعية والانتهاكات الدستورية والقانونية، والبدء فى مرحلة جديدة تشرق فيها شمس الديمقراطية وسيادة القانون.
فمن المؤكد أن البلد لا يستطيع أن يتحمل مزيدا من الاستخفاف بالعقول وإهدار حقوق المواطن ولا يقبل مزيدا من التدهور والفساد الذى نما واستشرى وتوحش خلال ثلاثين عاما، وفى مواجهة ذلك هناك أفكار مطروحة لا بأس بها مثل تشكيل برلمان مواز وتكوين حكومة ظل والبدء فى حركة احتجاجات متلاحقة ومظاهرات سلمية كبيرة ومنظمة. كذلك يجرى الإعداد والتعاون فى عرض الأمر على القضاء لاستصدار أحكام ببطلان مشروعية مجلس الشعب الجديد وعدم الاعتداد بقراراته.
وليس خافيا أن حزب السلطة تصرف بعناد مسطح ينقصه الذكاء والحصافة ويعبر عن الاستخفاف بالشعب، ولا بد والحالة هذه ــ إن كانت لديه القدرة على تفكير عقلانى ــ أن يرتجف الحزب خوفا من مأزق عدم الدستورية الذى سيلاحق برلمانه من جميع القوى بدلا من الاستخفاف بالقوى السياسية وقد يسفر الأمر عن مشهد ختامى ينبئ بعدم الخبرة والحنكة، ولا يدرى أحد ما إذا كان هذا الحزب سيراجع نفسه فى انتخابات الجولة الثانية التى يتنافس فيها 429 مرشحا على 238 مقعدا والشائع فى بعض الأوساط أن الحزب قد يحاول تحسين صورته بإنجاح بعض أعضاء القوى المنسحبة ليس فقط كديكور يخفى بشاعة السيطرة وغلو السلطة، بل أيضا لكى يذكى أسباب النزاع بين المرشحين الذين أنجحهم، وبين أحزابهم.
وختاما نقول أن من كان يبحث عن الاستقرار فى مصر والشرق الأوسط واهم ومخطئ لأن هذا الاستخفاف بمشاكل البلد وبحقوق شعبها ووضع أمواله ومصيره فى أيدى 120عائلة عزلت نفسها عن بسطاء المواطنين ناعمين فى قصورهم وطائراتهم الخاصة وملياراتهم فى البنوك، لا بد أن يضرب الاستقرار فى الصميم ويوقع البلد فى حالة غير مسبوقة من الفوضى التى لا يمكن التنبؤ بحجمها ونتائجها. وليس من المقبول فى ضوء خطورة الموقف الراهن أن تبقى القوى السياسية فى تخبطها وفرقتها وعدم قدرتها على وضع معالم مشروع نهضوى كبير تكتل من ورائه جماهير الكادحين، وليس من المطلوب أن تحاول مرة أخرى التعلق بأهداب شخصيات انسحبت من الساحة كان اختيارها ضربا من الرومانسية، لأنها لو عجزت اختيار قيادتها على أرضية نضالية، وانصرفت عن مهامها فستبزغ بالضرورة قوى فتية جديدة ــ موجودة بالفعل ــ لتتسلم مقاليد العمل السياسى فى هذا البلد. وليس هذا ببعيد على من عبروا القناة تحت هتاف الله أكبر فحققوا نصر أكتوبر الذى سرق منهم واحتكره عدد من المدعين.
هل لنا من بعض العقل فى مصر العريقة..؟