أعلنت الشركة الصينية الناشئة «ديب سيك» عن نموذجها الجديد (DeepSeek-R1)، بعد أقل من أسبوع على تنصيب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وهو النموذج الذى أظهر أداءً لافتا مقارنة بنماذج الذكاء الاصطناعى الأمريكية الرائدة مثل «تشات جى بى تى» (ChatGPT). وقد أثار هذا الابتكار الصينى منخفض التكلفة موجة من الصدمة فى الأسواق المالية العالمية؛ تسببت فى تراجع ملحوظ فى مؤشرات البورصة الأمريكية، خاصةً قطاع التكنولوجيا، يوم 27 يناير 2025، وذلك قبل أن تستقر أسهم هذه الشركات الأمريكية مرة أخرى فى اليوم التالى.
جاء هذا التطور المتسارع فى وقت تُنفق فيه الشركات الأمريكية مليارات الدولارات على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعى، وسط قيود جيوسياسية على تصدير الرقائق الإلكترونية المتطورة إلى الصين؛ مما أثار تساؤلات حول أبعاد هذه الأزمة، وانعكاساتها على الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية الأمريكية.
ربما تُعيد «ديب سيك» تعريف قواعد المنافسة العالمية، عبر دمجها بين الكفاءة التقنية وتجاوز العقوبات الغربية؛ مما يدفع نحو تساؤلات من قبيل: هل يشكل صعود الصين فى الذكاء الاصطناعى تهديدا للتفوق الأمريكى؟ وما تداعيات هذه المعركة التكنولوجية على الاستقرار المالى العالمى؟
• • •
يعكس التراجع الملحوظ فى الأسواق المالية الأمريكية يوم 27 يناير 2025، الذى تزامن مع صعود نموذج «ديب سيك» الصينى، مجموعة من الدلالات العميقة التى تتجاوز هذه الخسائر المالية، ويمكن تفصيلها على النحو التالى:
• تحدى التفوق التكنولوجى الأمريكى: أظهرت شركة «ديب سيك» الصينية، التى تأسست عام 2023 برأس مال أولى يقدر بنحو 10 ملايين يوان، قدرة على تطوير نموذج للذكاء الاصطناعى بتكلفة منخفضة، حيث تشير التقديرات إلى أنها قد لا تتجاوز 1% من تكلفة النماذج الأمريكية المشابهة التى طورتها شركات مثل «أوبن أيه آى» (OpenAI) و«جوجل». وهذا التطور يطرح تساؤلات حول مدى صحة الافتراض القائل إن التفوق التكنولوجى يرتهن بالشركات الغربية.
• تصادم المصالح الجيوسياسية والاقتصادية: يشير التراجع المؤقت فى الأسواق المالية إلى أكثر من مجرد رد فعل على التطور التقنى الصينى، فقد يكون ناتجًا عن تفاعل بين استراتيجيتين مختلفتين، هما:
أ- الاستراتيجية الصينية: تعتمد بكين على تطوير حلول مبتكرة فى مجال التكنولوجيا على الرغم من العقوبات المفروضة عليها، وذلك عبر تكثيف التعاون بين القطاعين العام والخاص. ففى عام 2019، كانت الصين تستورد ما يُقدر بـ350 مليار دولار من الرقائق سنويا، وتقوم بتصنيع 35% فقط من احتياجاتها محليا. وبعد فرض العقوبات على شركة «هواوى» ومنعها من الوصول إلى الرقائق الأمريكية، أطلقت بكين خطة استثمارية ضخمة بقيمة 143 مليار دولار فى سبتمبر 2022 بهدف تعزيز صناعة الرقائق المحلية.
ب- الاستراتيجية الأمريكية: تعمل واشنطن على عرقلة التقدم التكنولوجى الصينى من خلال حظر تصدير الرقائق المتطورة وزيادة الاستثمار الداخلى فى البنية التحتية التكنولوجية، خاصةً فى «وادى السيليكون».
وبالرغم من هذه القيود، تمكنت بكين من تجاوز بعضها عبر تطوير بدائل محلية واستخدام قنوات غير رسمية للحصول على التكنولوجيا المحظورة. وهذا النجاح كشف عن محدودية الأدوات الأمريكية فى تحقيق أهدافها؛ مما دفع «وول ستريت» إلى مراجعة استثماراتها فى الشركات المعتمدة على التكنولوجيا الحساسة.
• تحوُّل الذكاء الاصطناعى من فرصة إلى تهديد: تحولت تقنيات الذكاء الاصطناعى، التى كانت تُعد المحرك الرئيسى لنمو أسواق الأسهم خلال السنوات الماضية، إلى مصدر تهديد فجائى. فبينما كانت الشركات الأمريكية تتباهى بقدراتها على جذب الاستثمارات عبر وعود بمستقبل تقنى مبهر، جاءت «ديب سيك» لتُذكِّر الأسواق بأن الابتكار لا يرتبط بالضرورة بالإنفاق الضخم.
لكن التهديدات لا تقتصر على الجانب الاقتصادى، بل تمتد إلى تحديات أخلاقية وأمنية تعكسها عيوب نماذج الذكاء الاصطناعى نفسها. وتُعانى هذه النماذج، مثل «ديب سيك» و«تشات جى بى تى»، من مشكلة الاستجابات المضللة؛ حيث قد تُنتج معلومات غير دقيقة أو مضللة دون سابق إنذار؛ مما يهدد مصداقية تطبيقاتها فى قطاعات حساسة.
ومن الناحية الأمنية، تبرز مخاوف من إمكانية استغلال هذه النماذج لتنفيذ هجمات سيبرانية معقدة، خاصةً مع تزايد اعتماد القطاعات الحيوية على الذكاء الاصطناعى. وفى حالة «ديب سيك»، يُخشى أن تخضع مخرجاتها لرقابة صارمة تتناغم مع السياسات الصينية؛ مما يُضعف استقلالية المعلومات ويُعمق الشكوك حول موثوقية التكنولوجيا الصينية فى الأسواق العالمية.
وهذه التحديات تُضفى مزيدا من التعقيد على المنافسة التكنولوجية؛ حيث لم يعد التفوق يُقاس بالابتكار التقنى وحده، بل أيضاً بالقدرة على ضمان الشفافية والأمان والحيادية فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى.
• • •
هناك عدة تداعيات لصعود نموذج «ديب سيك» الصينى فى مجال الذكاء الاصطناعى، منها الآتى:
• تأثر سوق العملات الرقمية: مع انخفاض سهم شركة «إنفيديا» بنسبة 6.5%، وتراجع سهم «مايكروسوفت» بنسبة 3.5%، وامتداد هذا التراجع إلى الساحة الأوروبية؛ حيث هبط سهم شركة «أيه إس إم إل» (ASML) بنسبة 9%، فإن ذلك التراجع فى أسهم التكنولوجيا أثار موجة من عمليات البيع فى سوق العملات المُشفرة؛ مما أدى إلى تصفية ما يقرب من مليار دولار من الأصول الرقمية. ونتيجة لذلك، انخفضت قيمة عملة «البيتكوين» بنسبة 5%، وتراجعت العملات البديلة بنسب تتراوح بين 8% و10%. ويمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال تحليل العلاقة بين أسواق الأسهم التقليدية وسوق العملات المُشفرة. فعندما يتعرض قطاع التكنولوجيا لضغوط بيعية، قد يلجأ المستثمرون إلى تصفية أصولهم الرقمية لتغطية خسائرهم أو لتقليل المخاطر.
• إعادة توزيع الاستثمارات: قد يدفع هذا التطور المستثمرين إلى إعادة النظر فى استراتيجياتهم الاستثمارية، مع التركيز على الشركات الناشئة فى مجال الذكاء الاصطناعى فى الصين؛ مما قد يؤدى إلى تحول فى تدفقات رأس المال العالمية.
• تغيير معايير الصناعة: قد يؤدى نجاح «ديب سيك» إلى اعتماد معايير جديدة فى تطوير نماذج الذكاء الاصطناعى، مع التركيز على الكفاءة والتكلفة المنخفضة. فعلى سبيل المثال، تتميز نماذج «ديب سيك» بهيكل تكلفة أقل بكثير مقارنةً بمنافسيها مثل «أوبن أيه آى»؛ حيث تفرض «ديب سيك» نحو 0.55 دولار لكل مليون رمز إدخال، مقارنةً بـ15 دولارا لكل مليون رمز لدى «أوبن أيه آى». وهذا الفارق الكبير فى الأسعار لا يجعل التكنولوجيا المتقدمة للذكاء الاصطناعى أكثر سهولة فى الوصول فحسب، بل يضع أيضا ضغوطا على الشركات الأخرى لإعادة النظر فى استراتيجيات التسعير ونماذج التشغيل الخاصة بها. بالإضافة إلى ذلك، يُتوقع أن تركز المعايير الجديدة على المرونة والقابلية للتطبيق؛ مما يسمح للنماذج بالتكيف بسهولة مع مختلف السيناريوهات والتطبيقات دون الحاجة إلى تعديلات كبيرة.
• • •
قد يشير التراجع فى الأسواق المالية الأمريكية يوم 27 يناير 2025 إلى أكثر من مجرد تصحيح ظرفى لأسعار الأسهم، وقد يعكس تحولاً فى ديناميكيات المنافسة التكنولوجية العالمية. ولا شك فى أن نجاح نموذج «ديب سيك» الصينى فى تحقيق كفاءة تكنولوجية عالية بتكاليف منخفضة على الرغم من العقوبات، قد يثير تساؤلات حول افتراض الهيمنة الأمريكية المطلقة فى الابتكار. فالتفوق التكنولوجى لم يعد مقتصراً على التفوق فى الإنفاق، بل قد يعتمد أيضا على القدرة على تحسين الكفاءة وتجاوز القيود الهيكلية.
وتُظهر هذه التحولات أن الأسواق المالية أصبحت شديدة الحساسية للتطورات التكنولوجية العابرة للحدود، وهو ما يدعم فرضية الترابط بين التكنولوجيا والاستقرار المالى. فكما أثر نموذج «ديب سيك» فى قطاعى التكنولوجيا والطاقة، قد تحدث ابتكارات مماثلة فى مجالات مثل الذكاء الاصطناعى الكمى أو الحوسبة الخضراء؛ مما قد يسبب اضطرابات فى قطاعات أخرى.
ولهذا، قد تحتاج الدول الصناعية إلى اعتماد استراتيجيات مرنة تدمج بين التعاون الدولى وحماية المصالح الحيوية. وهذا التحول ربما يستدعى إعادة النظر فى النظريات الكلاسيكية للهيمنة التكنولوجية، مثل نموذج دورة حياة التكنولوجيا، التى تفترض سيطرة الاقتصادات المتقدمة على مراحل الابتكار. فصعود الصين يشير إلى إمكانية أن تقوم الاقتصادات الناشئة بإعادة تشكيل هذه الدورة عبر آليات مثل الابتكار التكيفى، الذى يعتمد على تحسين التقنيات الحالية بدلاً من اختراعها من الصفر.
رامز صلاح
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/4tx88y85