فتحت الراديو على أغنية أمل حياتى. لم أكن قد ضبطته من قبل على إذاعة بعينها، ولا أدرت المؤشر حينها بحثا عن أم كلثوم، ولا زلت أجهل المحطة التى قابلتنى بها. كل ما أعلمه أن مجيئها أوعز إلى بابتسامة عريضة علمت يقينا أنها غير ملائمة، لا الوقت ولا الظرف كانا يبشران بهذا الأمل الذى اقتحم غرفة مكتبى عن غير قصد.
لم أتمكن على مدار دقائق طويلة من سماع أى كلمة من كلمات الأغنية سوى كلمة «أمل»، لا لعيب فى الراديو العتيق، بل لعيب أحسبه فى نفسى. كانت العبارات كلها تتجمع وتتشكل، ثم تصعد وتهبط وتتمدد، ولا تترك داخلى أى صدى إلا ما تعلق بالأمل.
لماذا يظل لدينا أمل؟ رغم كل المصاعب والعراقيل التى نصادفها، وأمواج الإحباط المتوالية التى تضربنا يظل لدينا أمل. حتى ونحن متأكدون من حدوث ما لا نرغب فيه، يظل فى داخلنا جزء متشبث ببقعة من الأمل لا يدرى أحد من أين تطل. يدخل الطالب امتحانا لا يكتب فيه حرفا، لكن أمل النجاح يبقى عالقا فى خياله حتى ظهور النتيجة، يدرك المريض استحالة الشفاء، لكن جزء منه يظل متلهفا ومتطلعا إلى معجزة قد لا تحدث حتى النهاية.
•••
الأمل سر عجيب، وأفاعيله بالناس أعجب. وحده دفع كثيرين إلى تناقل وصفة الاستشفاء من فيروسات الكبد ببول الإبل، وحده أيضا أقنع آخرين، وصل بعضهم إلى مراتب رفيعة من العلم، بأن جهازا اخترعه رجل لا يعرف أحد من أى جاء ولا أين درس، سوف يستخلص من أجسادهم المرض ويردهم إلى حيواتهم أصحاء معافين. بالأمل وحده أيضا يحتفظ أشخاص استثنائيون بحال معنوية مرتفعة وسط أحلك الأيام وأكثرها قسوة، حيث يغدو باعثا من بواعث مقاومتهم لانكسارات الحياة وأوجاعها، وجسرا يعبرون به الأحزان المائجة.
عرفنا أن مبارك لن يدان، القرائن كلها كانت فى صالحه، والسياق العام كان يفضى دون فراسة عميقة إلى النتائج المعلنة. عرفنا أن نظاما مثل هذا لن يتخلى منتصرا عن سيده، وأن العدالة لم يحن وقتها بعد. عرفنا لكنا تشبثنا بالأمل، الأمل فى حكم منصف يجبرنا على مراجعة حساباتنا؛ ربما كانت مغلوطة، أو كنا متشائمين بأكثر مما ينبغى، وحين وقعت الواقعة، وأدركتنا الحقائق، وثبت ما حاولنا أن نتعامى عنه، هلعنا، ولم نخجل من إعلان الصدمة، واستوينا أمام أنفسنا أغرارا ساذجين.
مسافة شاسعة بين ما يدركه المرء داخله وما يلمسه واقعا، لحظات التحقق لها دوما وقع مختلف، ورد فعل مختلف.
الأغانى عن الأمل كثيرة، وأغلب الظن أن أصحابها يرحلون دون أن تتحقق آمالهم، لكنهم يتركون آثارا تبقى شاهدة على المحاولة. غنت أم كلثوم وغنت وردة الجزائرية وغيرهما؛ ولكلتيهما صولات وجولات مع آمال معلقة. نكذب أحيانا فيما يتعلق بمكنوناتنا، والتعبير الشهير المقتضب «ما فيش فايدة» نتداوله جميعا فى الظاهر، بينما يخبئ كل منا فى باطنه ذرة من الأمل، تنشطر وتتفجر مرة، وتخبو وتنتكس مرات لكنها تظل موجودة. أحيانا ما نخبئ الأمل كتهمة ندرءها عنا، وكأننا نخشى عليه من الضياع والتلاشى أو من حسد الحاسدين، حتى ننسى لفرط ما أسدلنا عليه من ستائر وحجب إنه لا يزال حاضرا يتنفس داخلنا، ونتنفس به.
•••
يدفع الأمل أحيانا إلى ارتكاب ما قد يوصف بالحماقة أو الجنون؛ أشخاص مرموقون يطرقون أبواب الدجالين أملا فى أن يأتوهم بما عجز عنه أرباب العلم. نساء ورجال يقررون أن يتسلقوا جبالا وأن يسبحوا عبر بحار ومحيطات وقد جاوزوا عمر الشباب وتعدوه إلى الكهولة، أملا فى عدم الأفول. نجمات يعاركن الشيخوخة، معركة تبدو خاسرة؛ يستخدمن الأقراص والأصباغ ويتحايلن على كرمشات الزمن بحقن وجراحات ثقيلة ومؤلمة. يقال عنهن متصابيات، تطالهن السخرية مرات ومرات، سخرية موجعة لا شك، لكنهن لا يتوقفن عن التعلق بأمل استمرار الحياة حلوة ممتعة لا يلوثها إحساس الغروب.
حتى من يتصرف بناء على إدراكه العقلى الخالص لمجريات الأمور، ومن يتخذ قراره بناء على دراسة وافية، رافضا الاستسلام إلى إغواء أمل بعيد، لا منطق وراءه، فإنه يظل مستعدا للتعلق بأهداب هذا الأمل متى جاءت اللحظة المناسبة. يظل رانيا لأن تنصلح الأحوال، وأن يجد نفسه فى حل من قرار قد لا يميل إليه ولا يريد الاستمرار فيه.
•••
حين عرفت أنها ترقد فى غرفة الرعاية المركزة توجست شرا، لكنى دفنته وقلت مناضلة وسوف تخرج غدا أو بعد غد، وحين قالوا إنها على جهاز التنفس الصناعى أدركت أن الأمر قد انتهى، لكنى عنفت نفسى وقلت مناضلة وسوف تكسر القاعدة. رحلت وبقى الأمل غبيا لا يريد الهروب. البشر مولودون وفى أحشائهم أمل.