نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب اللبنانى «محمود برى» والذى يتناول مفهوم «الذكاء الاصطناعى»، وتطور الآلات الذكية بحيث ستكون أكثر ذكاء من الإنسان وذلك من خلال القيام بتنفيذ الأوامر دون أى خطأ أو تعب، كما أن هناك تخوفا من أن يتم استخدام الألة باعتبارها أداة شريرة تقوم بتدمير العالم. بداية أشار الكاتب إلى أن «الذكاء الاصطناعى» هو مفهومٌ مُعقدٌ فى أساسه ومُلتبس، وبالتالى غير مفهوم تماما… ذلك أنه من الغرابة بمكان أن يتحدث العِلم عن مفهوم الذكاء الاصطناعى، فى حين أن التعريف الأولى البسيط لمَلكة الذكاء أساسا ما انفك حائرا ومُحيِّرا وغير واضح فى نصوص الباحثين وعلى ألسنة المفكرين.
لكن، وقبل إطلاق الأحكام، لنضع العربة وراء الحصان أولا.
«الذكاء الاصطناعى»: هو مُصطلحٌ تعبيرى ابتكره عالِم الحَوسبة الأمريكى جون مكارثى (1927 ــ 2011)، فى العام 1956. والتعبير يرمى إلى توصيف القدرات غير الاعتيادية التى تبديها الآلات المُبرمَجة، بما يُحاكى القدرات الذهنية للدماغ البشرى، مثل التعلم والاستنتاج ورد الفعل.
الواقع أنه مهما بالغنا باعتماد أساليب التبسيط والتسهيل والتيسير، فلن ننجح كما ينبغى فى نزع سِمات الدهشة والغرابة والإبهام عن هذا المفهوم الذى لا ينى يتىسربل بالتباساته. فالذكاء أساسا لا يتحقق خارج مجال التفكير، وهذا يستوجب توافر الوعى من بابِ أولى. وبغياب الوعى والتفكير يصبح وجود الذكاء مستحيلا، وبالتالى يستحيل وصم أى آلة بالذكاء.
***
يضيف الكاتب أن هذا من الناحية الرياضية البحتة. لكنْ، بالانتقال إلى نافذة أخرى يتغير المشهد. أنا مثلا حصلتُ على أداةٍ للاستعمال الشخصى وأنا جالس أمام شاشة الكومبيوتر؛ إذ اشتريتها عبر الإنترنت: دخلتُ الموقع المطلوب على الشبكة العنكبوتية، سألتُ عن طلبى وخُضتُ نقاشا جادا حول المواصفات والتعديلات والتكلفة وما إلى ذلك، وأخيرا حصلتُ على ما أردته من الأجوبة بصوتٍ نسائى شجى وواضح، وقمتُ بتسديد الثمن عبر بطاقتى المالية.
هذا كله حصل ويحصل مثله وأكثر فى سياق الرفاهية التى بات يوفرها لنا العصر والتقنيات المُتاحة. والمُلاحظ أن صاحبة ذلك الصوت الشجى لم تكُن أكثر من صوت؛ برنامج حاسوبى لسيدة موجودة افتراضيا، من دون جسم ولا كيان. مجرد «ذكاء اصطناعى»… نمطٌ من ذكاء الآلة.
الحادثة ليست فريدة، وهذا المستوى من الرفاهية بات متوافرا منذ سنوات طويلة. فمعظم الآلات والأدوات فى البيت ومقر العمل، فى السيارة والطائرة والقطار، فى المقاهى والمطاعم والمنتزهات… باتت تتوافر كلها بنماذج حديثة قابلة للبرمجة بحيث تُلبى متطلبات المُستخدِم تماما، فضلا عن «عجيبة» هاتف الجيب والإنترنت…
هذا كله من ثمار تطوير الآلة وتأهيلها لتقوم عن الإنسان بالمَهام التى كان ينبغى عليه القيام بها بنفسه، وقد أطلقوا عليه تعبيرا لا يقل إثارة عن «الذكاء الاصطناعى»، فأسموه: ذكاء الآلة. نعم، هذه الكتلة من المعدن والعظم والفحم والبلاستيك (وهى مواد جامدة وميتة)، دسَت فيها التقنيات البشرية أنماطا من القدرات الذكية أتاحت لها أن «تتصرف» وتُنفِّذ المهام (التى جرت برمجتها مُسبقا للقيام بها). الكلمة المفتاح هنا هى البرمجة. أنتَ تُربى ابنك ليكون مهذبا مثلا… كأنكَ تُبرمِج له سلوكه بحيث يتوافق مع مقومات التهذيب. ما يفعله التقنى العالِم مع الآلة ليس بعيدا عن هذا: يُبرمجها كى تقوم بما يتطلبه منها، يزرع فيها البرنامج التشغيلى الذى يُريد، ويوكل أمر التنفيذ والمتابعة الدقيقة لبرنامج آخر… «مُفكِر إلكترونى» يعمل ويراقب ويتابع بلا تعب ولا خطأ.
إلى هنا تبدو الصفحة مُشرقة والتقانة المتقدمة مثابة خادم أمين للإنسان. إلا أن اليوم الجميل لا يدوم… والذكاء الاصطناعى ليس منذورا على ما يبدو ليلتزم حدود الأمان البشرى، بل إنه حاول (ونجح) مرارا فى التفوق على أستاذه. صحيح أن برامج الترجمة الآلية مثلا لم تصل إلى مستوى الجودة التى يقدمها المُترجم البشرى، إلا أنها ما برحت تتقدم محقِّقة خطوات ثابتة إلى الأمام. وقد بشرت دراسة جديدة أن الذكاء الاصطناعى سيكون قادرا على القيام بجميع المهام الخاصة بالبشر فى غضون 50 عاما من اليوم، وسيتفوق على الإنسان فى ترجمة اللغات وقيادة الشاحنات وحتى تأليف الكُتب. ولا يخفى أنه خلال العقدَين الماضيَين، حقَّق هذا الذكاء الاصطناعى فى مجال ألعاب الفيديو، انقلابا كبيرا وتقدما هائلا من خلال الوصول إلى المزيد من الإثارة والتشويق، وتوفير خصم (برنامجى) أكثر ذكاء مما كان من قبل، مع قدرٍ أكبر من المحاكاة. ولم تلبث الآلة أن كرَّست تفوقها على الذكاء البشرى فى لُعبة الشطرنج، بحيث لم تترك «بطلا عالميا» فى اللعبة إلا وتحدته وفازت عليه. لذا فليس من قبيل المُبالغة التخوف من أن يُصبح الروبوت الحديث وكل آلة معزَزة بالخوارزميات الذكية، آلات أعلى ذكاء من الإنسان، وربما أيضاَ آلات واعية بمعنى ما، «تُدرك» ما يجرى حولها، و«تتصرف» بمقدار لا يُمكن ضبطه من الحرية، ولاسيما مع تواصل تطويرها وتعزيزها بقدرات ذكائية لا تقف عند حد.
لقد جاء تحقيق هذه الإنجازات ليشكِّل نقطة مشرقة فى تاريخ الذكاء البشرى وتطور التقانة وسحرها الجميل؛ إلا أن هذا ليس سوى وجه واحد لقطعة العملة، ولا ينبغى تجاهل وجود وجهها الآخر الذى لا يُرى من هذه الجهة، والذى قد لا يكون كما تتمنى.
***
فيتساءل الكاتب: ما هى الاحتمالات المُمكنة…؟
بعيدا عن الانزلاق إلى جاذبية التهويل وتضخيم الوقائع، فالقوى الهائلة التى تتمتع بها الآلة فى نماذجها الحديثة والذكية، جعلت منها جنسا جبارا من الوحوش الطاغية، إنما المُسيطَر عليها من قبل صانعها ومُبرمِج أعمالها ومهامها… الإنسان. فإن خرجت عن طاعته لسببٍ ما، أو تعطلت، أو جرى استخدامها لغايات شريرة، سواء للقضاء على الجيوش أو لتدمير القوى والاقتصادات أو الإنشاءات والحضارات... إلخ، عندها يصح القول إن الوحش الذكى يتمرد على صانعه، ويكون فى هذه الحالة مُجردا من كل إنسانية ومسئولية وعاطفة، يتحدى القوانين ويدوس على النُظم ولا تعوقه حواجز ولا تعقل حركته كوابح، ويصبح ذكاؤه لعنة قاتمة لا تُبقى ولا تَذَر، وتهديدا خطيرا ومُباشرا وحقيقيا لأنماط الحياة والإنشاءات والحضارات كلها، وللبشرية برمتها من باب أولى. وما وفرته سينما الخيال العلمى من هذه الأنماط لا يعود مجرد خيال.
فهل هذا الاحتمال وارد بالفعل؟
الواقع أن المَخاوف الجادة من «مغبة سيطرة الآلات وتراجُع دَور الإنسان» ليست نوعا من الترف الفكرى. فهذا الشعور بات واسع الانتشار فى الأوساط العلمية المختصة والمُتابِعة. أحد أشهر المستثمرين فى الغرب وأكبرهم، «إلمون موسك»، مؤسِس شركة «تيسلا» لإنتاج السيارات الكهربائية فى الولايات المتحدة الأمريكية، أعلن أن «الذكاء الاصطناعى هو أكبر تهديد يُواجِه وجودنا نحن البشر»، مُشبها الآلات التى تفكر بـ«الأسلحة النووية» بـ«الشيطان». وإذا كان الفيلسوف السويدى «نيك بوستروم» من جامعة «أوكسفورد» قد طمأننا إلى أن «العِلم لن يتوصل إلى ابتكار آلات بذكاء فائق يتفوق على ذكاء الإنسان، قبل حُلول العام 2075»، فإن إبعاد الموعد فى الزمان لا يعنى نفى الخطر بل تأكيده. فعندما يتسنى ابتكار أجهزة حاسوب تمتلك عقولا مستقلة خاصة بها، تدخل البشرية عصر فقدان السيطرة على برمجيات الذكاء الاصطناعى.
***
وعلى الرغم من تفاؤل «مارك زوكربيرغ» مؤسِّس شركة «فيسبوك»، واعتباره أن «الذكاء الاصطناعى سيحسن من حياة الناس ويجعلها أكثر سهولة»، إلا أن الإشارة تبدو ضرورية إلى واقع أن الشركة إياها اضطرت أخيرا لإغلاق أحد أحدث برامجها للذكاء الاصطناعى، بعد أن طور ذلك البرنامج نفسه من تلقائه، ومن دون أمر ولا توجيه بشرى، لغة خاصة للتواصل، غير الإنجليزية. ومن خلال هذه اللغة عمل روبوتان فى الشركة على التواصل مع بعضهما، وتوصلا إلى اتفاق لإنجاز مهمة غير معروفة لم يستطع المبرمجون تحديدها، فعمدوا إلى إلغاء البرنامج من أساسه.
وهذا على خطورته، لم يكُن مُفاجئا للمتخصصين. فمعروف أن الذكاء الاصطناعى يتعلم من البشر وقدراتهم، ويُمكنه أن يُطوِّر منظوماته الخاصة خارج رأى البشر وإرادتهم أيضا. وحين يتحقق ذلك غدا أو بعده، تصبح سلامة الإنسان موضوع تفاوض مع الآلة.
وهذا يتفق مع مَخاوف أحد أكبر علماء الفيزياء المُعاصرين، البريطانى «ستيفن هوكينج» مؤسِّس ورئيس «مركز دراسة المخاطر المهدِّدة للبشرية» فى كامبريدج. فهو أعلن عن تخوفه مما سماه «يوم قيامة يثور فيه الذكاء الاصطناعى على البشر ويؤدى إلى إبادتهم، وبأحسن الأحوال إلى استعبادهم».
إلى هنا تتلبد الآفاق بتساؤلات مختلفة: إن كان صحيحا أن المصنوع يُمكن أن يصير أذكى من صانعه فيشكِّل خطرا، أليس الأصح القول إن الخطر يأتى من الإنسان أولا وليس من الروبوتات والذكاء الاصطناعى؟
أعتقد أننا كبشر، نبنى منطقنا (ومخاوفنا أيضا) على فرضيات نعتبرها نهائية، بينما يتبين لاحقا أنها كانت خاطئة. والأمثلة النموذجية كثيرة، من التفاحة الشهيرة التى «لم» تسقط على رأس «نيوتن»، إلى الفئران التى «لا» تعشق الجبنة، وصولا إلى النعامة التى «لا» تُخفى رأسها فى الرمال. فهذه كلها فرضيات ثبت اليوم أنها غير صحيحة.
فهلا يُمكننا الاعتماد على ما لا نعرفه بعد، فنتحرر من شحوب أفكارنا المُسبقة (ومخاوفنا الكامنة)، ونترك للآلة الذكية أن تدرس بذاتها… احتمالات خطورتها وكيفية السيطرة المُستديمة عليها؟
النص الأصلى