منذ أعوام خَلت، بل كادت تُتمّم عقدًا من الزمن؛ اكتست الشوارع برحابةٍ غير مَعهودة، وبَدت أكبر طولًا وعرضًا. مَرَّت أيامٌ أرى الناسَ تزين وجوهَهم الابتساماتُ، ويعلو قسماتهم ضوءٌ يُضفي عليها حسنًا وبهاء. لم يكُن سببُ تألُّق السائرين سوى كبرياء عاد بعد طول غياب، ولم يكُن لاتساع الشوارع تفسير سوى اكتسائها ببهاءِ الانتصار. تظهر الشوارعُ اليومَ مُكتظَّة رغم الهدم والردم والتوسيع، كما يلوح الأفقُ شديدَ الضيق.
***
تقول مَعاجمُ اللغة العربية أن البَهاءَ هو حُسن المَنْظَر وجماله؛ بقدر يملأ الأعيُنَ ويُشبعها. بهاءُ المُلكِ هو مَجده، وتَباهَوا أَي تفاخروا، ومِن الفعلِ أن المُباهاةَ مُفاخرةٌ، وقد دَرَجَ الأقدمون على الحديث عما عظُم مِن أمرهم وعلا قائلين: إنّ هذا لَبُهْيَانا؛ أَي هو مما نتَباهَى به أمامَ الناس. تُورِد الشروح والقواميسُ القديمة بيتًا للأَعشى في الإطار ذاته يقول: وفي الحَيِّ مَن يَهْوَى هَوانا ويَبْتَهِي، وآخرُ قد أَبْدَى الكآبَة مُغْضَبا، والمُراد تبيين ما للهوى من أثر يجعله مصدرًا للتباهي. تُوصَف المرأةُ بأنها بَهِيَّة؛ أي جميلة الطلعة، وللرجل الصفة المذكرة؛ بهيّ. يُسمَّى البيتُ المُقدَّمُ أَمام البيوت "البَهْو"، وهي مُفردة تُطلَق على كُلِّ واسع مِن الأَمكنة، كما يمكن استخدامها كمجاز؛ فمن كان في بَهْو من العيش، فرغد ووفرة وثراء.
***
يقول المُتنبّي: وَمَا سَلّمْتُ فَوْقَك للثّريّا.. وَلا سَلّمْتُ فَوْقَك للسّماءِ.. وَقد أوحَشْتَ أرضَ الشامِ.. حَتّى سَلبْتَ رُبُوعَها ثَوبَ البهَاءِ. ذاع صيتُ المُتنبي بين الأرجاءِ، وأجاد كما لم يُجِد من قَبله كثيرُ الشعراء، والمعنى في أبياته هذه أن سيفَ الدولة الحمدانيّ الذي تمدحه الكلماتُ، يحظى بمرتبةٍ أعلى من السماء ومِن الكواكب التي تسكُنها، حتى إن خروجَه مِن الشام قد سَلبَها مَحاسِنها وذهب بجمالِها ومَفاتنها، وأزال عنها بهاءَها المَعهود. كَتبَ المُتنبّي هجاءً مثلما كتب الثناءَ، ولم يكُن أيهما مُستندًا إلى حقيقةٍ مُحايدةٍ بل مُبالغة وادعاءات؛ والمَشهود أن مَسالكَ المُتنبيين في يومنا هذا مُتشعّبة، وطرائقَهم في نوالِ العطايا والهِبات، وإرساءِ المَصالح وإشباعِ الأطماع والتطلُّعات؛ لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ إنما يكمُن الفارقُ بين هذا وذاك في مُستوى الجَّودة، واكتمال الميزانِ والحرفة. على كل حال للحقائق مهما قست بهاؤها، وللزيف دنو مهما كان بريقه.
***
يحظى أناسٌ ببهاء الطَّلَّة، فيما يُمنى أخرون بقتامةٍ لا يُبدّل مِنها أمرٌ؛ تتعاقب عليهم المُفرِحات كما تفعل الرزايا، ولا تُغيّر هذه أو تلك مِن حالِهم الثابتة. لا يقتصر استخدامُ المُفردةِ على البشر، فاللغةُ تُوصَف في أوْجِ تألُّقِها بالبَهاء، ويتمتع بالصِفةِ كذلك ما ارتفع شأنُه واستقام مِن القصائدِ والأشعار، وكثيرًا ما يَرد في مَعرضِ الحديث تعبير: "بهاء القصيد".
***
لم أعرف في حياتي سوى أشخاصٍ مَعدودين لا يتجاوزون أصابعَ اليدّ الواحدةِ، مِمَن حملوا أسماءَ بَهاءَ وبهيَّ، وبالمثل؛ قليلات هُنَّ مَن حَمَلن اسمَ بهيَّة. رغم طزاجةَ الاسم وجَمَال مُشتقَّاتِه، فإنه لا يَجْد بين السوادِ الأعظَم مِن الناسِ إقبالًا وانتشارًا؛ ولو على سبيل الاستبشارِ بالطالعِ ومُناوشةِ الآتي.
***
اندرجَ اسمُ بَهيَّة في أشعار غِنائية مُتعدّدة مِنها "يا بهية وخبريني يا بوي ع اللي قتل ياسين"، وهي أغنية تحمل حكايةً مِن التاريخ ذات وَجهين؛ أولهما يُوحي ببطولةِ ياسين في تحديه السُلطة ومُقاومته طُغيانها، والثاني يُقدّمه قاتلًا تَستَوْجِب جرائمُه العِقابَ، وما بين النقيضين أحداثٌ تَستحِقُّ أن تُروَى، وتداولٌ شعبيٌّ يَحضُّ على البَحثِ والدراسة. على كل حال، أدى هذه الأغنيةَ أكثر مِن مُطرِب، وحَفِظ الناسُ كلماتَها، ولا تزال تتردَّد حتى اليوم، دون أن تكون الحكايتان المُتباينتان حاضرتين في الأذهان. بدوره؛ غنَّى محمد العزبيّ: "رُدّي البيبان يا بهية"؛ فكانت مِن أكثر أعماله شُهرةٌ وأوسعَها انتشارًا. كتب كلماتها مُحمد حمزة، ووضع ألحانَها بليغ حمدي، ويُقال إنها خَرجت إلى الوجود بطلبٍ مُباشر مِن المَلك الحَسن الثاني، وأداها العِزبيّ للمرةِ الأولى في حُضورِه.
***
أشهر بَهِيَّة في الدراما هي الجميلة مُحسِنة توفيق؛ الرمزُ المُتجاوز للأحقاد والصغائرِ، والذي لم يختلف عليه أغلبُ الناس. إذا أطَلَّت مُحسنةُ مِن الشاشة في أي مِن أدوارِها؛ استدعى حضورُها إلى الذاكرةِ الوَطَنَ، واقشعرَّ البَدن، وجاشت النفسُ بمشاعرٍ جَمَّة؛ يُزكّيها بؤسُ الواقع، ويُضفي عليها عميقَ المَرارة والأسى.
***
غنَّى الشيخُ إمام: "مصر يا مه يا بهية" دافعًا بها أمامَ الزَّمن؛ يَشيخُ ولا تَشيخ، يمضي وتمكُث، يَمُّر ويَبلى فيما تبقى على حالها، بل وتزداد بمرور الوَقتِ أصالةً وبَهاءً. كثيرًا ما تُكنى مصر ببَهِيّة؛ لا يُخطئ تفسيرَ الكِنيةِ واحدٌ مِن أهلِها بل ومِن جِيرانها. تعارف الناسُ على جمالِ واديها وحُسنه مُنذ قديم الأزل؛ فنهر مُعتدلٌ رَحيب، وسماءٌ طالما تجلَّتَ صَافيةً للناظرين، وطَقسُ رائِقٌ تحاكَينا فيما مَضى باعتدالِه، وحفِظنا كأسمائِنا تَوصِيفه. تضافَرت تلك العواملُ لتجعلَ مصر بَهِيًّة، لكن العاملَ الرئيسَ الذي صاغَ روعتَها وأقرَّ بهاءَها ليس جمادًا؛ بل شعب ضاربةٌ جذورُه في التاريخ، ينهضُ مِن رَماد الأرضِ المُحترقة، فيُعيد لها ما فَقَدَت على يدِّ الطُغاة، ولو طالَ به الرقاد، ولو ظنُّوا ألا قَومَة في وجودِهم ولا نُهوض. لا أظنُ كلماتَ أحمد فؤاد نجم قد أخطأت الطريقَ أو حادت عن الحقيقة.