«نوافذ جديدة ـ تاريخ آخر لمصر»، عنوان الكتاب الجديد للمؤرخ والأكاديمى المعروف الدكتور محمد عفيفى (الصادر عن منشورات بتانة 2019)، وهو واحد من الكتب التى يمكنك التهامها فى ليلة واحدة بمحبة وشغف فائض، ليس أمتع من قضاء وقت بصحبة كتاب تاريخى، من أمتع ما قرأت من كتابات تاريخية حديثة موجهة لقارئ عام، دون أن تتخلى عن شرط منهجيتها وانضباطها العلمى، وتوثيقها التاريخى، إجمالا.
الدكتور عفيفى يعيد إلى الواجهة ــ عبر صفحات كتابه ــ تقاليد ومساهمات كبار المؤرخين المثقفين فى المجال العام؛ تلك الكتابة التاريخية الشائقة التى تتخلى عن جفاف صورتها الذهنية التقليدية؛ باعتبارها محض تواريخ وأرقام وسنوات ميلاد ووفاة، وحروب ومعارك، وتاريخ أسر حاكمة وحقب سياسية... إلخ، لحساب نوافذ جديدة، لتاريخ آخر نابض حى، يموج بالحركة والفكر والإبداع؛ منفتح على كل نتاجات الإبداع البشرى؛ أدب وفنون وسينما وعمارة وموسيقى، ثقافة وموروث شعبى وفكر ونظريات، تاريخ آخر ملهم بموضوعاته وزوايا معالجته، ولغته التاريخية السلسة البسيطة؛ تاريخ يتغيا حياة الناس ونشاطهم؛ يبحث فى تراثهم الثقافى، وأغنياتهم الوطنية والشعبية والوجدانية، ويحلل جوانب من شخصياتهم المحببة الجماهيرية.
نقرأ «ثلاثية» نجيب محفوظ بمنظار مغاير، ففضلا عن أنها إبداع خالص سائغ لقراء الأدب، فإنها أيضا قد أغرت المؤرخين والباحثين المتخصصين فى تاريخ مصر المعاصر باستخلاص صورة صادقة وأمينة، بجماليتها أولا، قبل توثيقها الحرفى أو التاريخى لمصر، فترة ما بين الحربين، ولحركة الأفكار وتشكل التيارات الفكرية آنذاك.. ونكتشف أن شخصية جماهيرية ومحبوبة مثل محمود شكوكو يمكن أن تصبح بين يدى مؤرخ خبير نموذج حالة لدراسة ثرية ومبهرة عن شخصية «ابن البلد»، وكيف يمكن لأفلامنا القديمة والجديدة على السواء أن تكون مصدرا للتاريخ!
وبهذا ستصبح الروايات والأفلام والموسيقى الشعبية، وغيرها من أشكال الإبداع الأدبى والفنى «وثائق» بالمعنى التاريخى العام لكلمة «وثيقة»، وتصبح متاحة للقراءة والتحليل والنظر واستخلاص ما بين السطور، وفق وحسب ثقافة ومهارة وحساسية ودربة وذائقة كل مؤرخ وخبراته وقدراته ومؤهلاته.
يقول محمد عفيفى فى تقديمه للكتاب «إن ما يهمنا هو تقديم هذه الدراسات التى تحاول كسر الكهنوت الذى فرض على الدراسات التاريخية، ومن ناحية أخرى الحث على الانفتاح على العلوم الاجتماعية الأخرى، والغاية والمنتهى أن يكون التاريخ تاريخ الناس».
ينتمى محمد عفيفى منهجيا، ومن حيث الرؤية التاريخية، إلى تيار مهم فى الدراسات التاريخية، كان يروده الأستاذان الكبيران أندريه ريمون، وبيتر جران، لإعادة البحث والحفر المعرفى والتاريخى فيما قبل الحملة الفرنسية، وتسليط أضواء البحث العلمى والمناهج الأكاديمية المعاصرة على فترة الحكم العثمانى لمصر، فيما قبل الحملة الفرنسية، وأثمرت هذه الجهود عن نتائج مذهلة على مستوى ما أنتجته من كتابات مترجمة ومؤلفة، أضاءت مناطق معتمة وشبه مجهولة فى القرون الثلاثة التى سبقت الحملة.
ويعد محمد عفيفى من أبرز المؤرخين المصريين الذين تعمقوا بحث موضوعاتهم فى ضوء آراء ونظريات أندريه ريمون (التى تعد أفكار وتصورات بيتر جران تطويرا لها وإضافة نوعية) عبر مشروع علمى حثيث ورصين بدءا من أطروحاته العلمية الأولى عن «تاريخ الأوقاف والحياة الاقتصادية فى مصر فى العصر العثمانى»، ثم تاريخ «الأقباط فى مصر فى العصر العثمانى»، ثم كتابه المرجعى الموجز المهم «عرب وعثمانيون ـ رؤى مغايرة»، وما تلا ذلك من كتب وأبحاث وضعت عفيفى فى مكانة متميزة وظاهرة بين نخبة المؤرخين المصريين المعاصرين المهمومين بالشأن العام.
أفكار الكتاب واضحة مترابطة، تحليلات ذكية ونفاذة حتى لو اختلفت مع بعض التفسيرات هنا أو هناك، وكان لك وجهة نظر مغايرة أو رؤية تفسيرية مضادة، فأنت إزاء كتابة لن تتركها إلا بعد أن تفرغ منها، وتسجل ملاحظاتك وتدون أسماء وعناوين الكتب والمواد التى يشتعل حماسك لمراجعتها وقراءتها والإفادة منها.
فى رأيى، هكذا تكون الكتب القيمة، وهكذا تكون المساهمة المفقودة فى المجال العام من كبار المؤرخين والأكاديميين الحقيقيين الذين لديهم شىء مهم وأصيل كى يقولوه، وليس محض ثرثرة فارغة واستعراض معلومات، وكان الله بالسر عليما. سيكون هذا الكتاب من بين أهم وأمتع ما قرأت فى دائرة الكتابات التاريخية، وما أحوجنا إليها الآن.