مكسبان مهمان قد تحققا حتى الآن على صعيد معالجة الأزمة السورية. تمثل الأول فى احتفاظ جامعة الدول العربية بخيوط الحل فى قبضتها، وصمودها أمام محاولات تحويل الأزمة نحو قبلة لا ترضاها. أما الثانى فقد تحقق بوصول المراقبين العرب بالفعل إلى الأراضى السورية، وانتشارهم فى أنحائها، وذلك من أجل أن يروا، ويسمعوا، ويرصدوا كل ما يجرى على أرض الواقع هناك.
لم تسلم بعثة المراقبة العربية من النقد، وليس ذلك بغريب بعد أن أخذت الجامعة على عاتقها الاضطلاع بمهمة ربما ليس لها بها سابق تجربة، وتتولاها وسط ظروف صعبة وبالغة التعقيد. غير أننى أحسب أن تلك الانتقادات قد جاءت متعجلة، وانصبت على المظهر دون الجوهر. بل إن حملات التشكيك التى طالت رئيس بعثة المراقبة قد تجاهلت قدرات الرجل وخبرته. وواقع الأمر أن المراقبين قد تصرفوا حتى الآن بحرفية، وبقدر كبير من الشجاعة، والحرص على الحيادية، ولم يتوانوا عن الجهر علنًا بالنقد وإبداء الرأى، إذا ما اضطروا إلى ذلك اضطرارًا.
من ينتقد البعثة، أو يشكك فى جدوى مهمتها، يغفل أن البديل عن ذلك لن يخرج عن أمرين اثنين. فإما انزلاق البلاد إلى ما هو أسوأ، سواء بالمزيد من سفك الدماء، مع قيام أطراف خارجية بالصيد فى الماء العكر، والبديل الثانى هو أن يتلقف دعاة التدويل الفرصة لدفع الأمور فى اتجاه السيناريو الليبى ومن قبله العراقى. ولست بحاجة هنا إلى تعديد ما وقع من مآس فى البلدين العربيين الشقيقين المعنيين.
وربما من المفيد هنا، ومن أجل تبديد المزاعم حول جدوى مهمة بعثة المراقبة، أن نبرز اشتمال بروتوكول المراقبين على كل عناصر الخطة العربية التى وافقت عليها الحكومة السورية والتزمت بها. فبعثة المراقبة مطالبة بالتحقق من توقف كل أعمال العنف حماية للمواطنين السوريين، ولكن دون التعرض للمظاهرات السلمية. وكذلك التأكد من الإفراج عن المعتقلين وزيارة السجون والمعتقلات، بالإضافة إلى توفير حرية الحركة أمام وسائل الإعلام. إذن فنحن أمام خارطة طريق عربية واضحة المعالم ومكتملة الخطوات.
ومن الضرورى أيضًا التأكيد على أن خطة العمل العربية هذه قد حظيت بتأييد ودعم عالمى واسع.. من أوروبا ومن أمريكا ومن روسيا. وتجلى هذا بوضوح فى القرار الذى أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 19 ديسمبر الماضى، وصوتت لصالحه 133 دولة، والذى طالب الحكومة السورية بوقف جميع الانتهاكات وحماية مواطنيها، بالإضافة إلى التأكيد على ضرورة «تنفيذ خطة العمل العربية بكل بنودها وبدون مزيد من الإبطاء». واللافت للنظر هنا أن روسيا الاتحادية، التى وقفت فى السابق ضد إصدار أى قرار مشابه من مجلس الأمن، اكتفت هذه المرة بالامتناع عن التصويت. دليل آخر على لجوء حلفاء سوريا إلى ممارسة الضغوط على النظام السورى بعد أن تعرضت مواقفهم السابقة لانتقادات عنيفة من قبل الشعب السورى، بل ومن الشعوب العربية كلها.
أمر آخر لا يجب إغفاله عند التعرض إلى الضغوط التى تمارس على النظام السورى، علّه يتذكّر أو يخشى، وأعنى به تلك العقوبات السياسية والاقتصادية التى فرضت على سوريا من قبل العديد من الدول. فالعقوبات العربية مازالت قائمة، ولم يتم رفعها. سوريا محرومة حتى الآن من حضور اجتماعات الجامعة العربية، وهناك تجميد للأرصدة ووقف للتعاملات المالية. أما الاتحاد الأوروبى فقد فرض حظرًا على استيراد البترول السورى، ومنع تقديم أية قروض أو تسهيلات ائتمانية. وقررت تركيا منع عبور أى شحنات للسلاح عبر أراضيها أو مجالها الجوى. بدأت هذه الإجراءات والعقوبات فى إحداث أثرها على جوانب عدة من الاقتصاد السورى، وتأثرت بالفعل التجارة الخارجية، والاستثمارات والسياحة. والواقع أن السلطات السورية تملك التخلص من تلك العقوبات إن هى قامت بتنفيذ عناصر المبادرة العربية بالجدية اللازمة، وبحسن النية الضرورية.
بقيت الإشارة إلى أن خطة العمل العربية ــ والتى وافقت عليها سوريا ــ نصت على قيام الجامعة العربية بإجراء الاتصالات والمشاورات اللازمة مع مختلف أطراف المعارضة السورية من أجل الإعداد لانعقاد مؤتمر للحوار الوطنى، تحضره ــ فى مرحلة معينة ــ الحكومة السورية إلى جانب هذه الأطراف، من أجل الاتفاق على رؤية موحدة لمرحلة انتقالية مقبلة. باشرت الجامعة العربية هذه الاتصالات مع مختلف الأطراف منذ فترة طويلة، كما قامت هذه الأطراف بتكثيف الاتصالات فيما بينها. وظهرت بدايات واعدة باتفاق كل من المجلس الوطنى السورى وهيئة التنسيق الوطنية يوم 31 ديسمبر الماضى على القواعد السياسية للنضال الديمقراطى فى المرحلة المقبلة فى سوريا. وكان من أبرز ما تضمنه ذلك الاتفاق النص «على رفض أى تدخل عسكرى أجنبى يمس سيادة واستقلال البلاد»، مع التأكيد على أن التدخل العربى لا يعتبر تدخلاً أجنبيًا. وحصر الاتفاق شكل الحماية التى يتعين توفيرها للمدنيين فى أن تتم «بكل الوسائل المشروعة فى إطار القانون الدولى لحقوق الإنسان». ولعل فى تأكيد مثل هذه المواقف ما يجهض المحاولات الرامية لتدويل الموضوع وعسكرته، أو الانسياق وراء أفكار تؤدى فى نهاية الأمر إلى ذلك، سواء بإقامة مناطق داخل سوريا لحماية المدنيين، أو فتح ممرات لإمداد المدنيين بالمعونات الإنسانية، وتلك أفكار ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
للأسف لم يصمد الاتفاق طويلاً، ويبدو أن أزمة داخلية تفجرت داخل المجلس الوطنى قد أجهضت الجهود التى سعت إلى توحيد صف المعارضة واجتماع كلمتها على المبادئ التى تحكم حركتها المستقبلية، الأمر الذى لا غنى عنه كى تتمتع المقاومة بالثقل المطلوب والمصداقية اللازمة.
وبالرغم من ذلك فإنه من الواضح الآن أن الضغوط تتزايد على النظام فى سوريا يومًا بعد يوم، ولم تعد ممارسات النظام خافية عن سمع وبصر المراقبين العرب، وأعتقد لذلك أن أوان المساءلة والحساب قد أضحى قريبًا.