ربما جربت أن تعانى من تطفل شخص عليك هنا أو هناك، فى محل العمل أو الشارع أو وسيلة المواصلات، ربما أحرجك أحدهم بفضوله، وربما تابعت آخر يحاول التخلص من فضول الآخرين.
إذا تحاور اثنان فى عربة من عربات مترو الأنفاق فسوف تنضم لهما تلقائيا عشرات الآذان لتتابع الحديث، وقد تتدخل ألسنة كثيرة لتشاركهما دون سابق معرفة أو استئذان. مِنا مَن يدأب على اقتحام خصوصية من حوله، ومِنا مَن يتمكن مِن السيطرة على فضوله.
مراقبة القط وهو يمد يده على كل متحرك، والطفل وهو يضع فى فمه كل ما يصل إليه، أو وهو يدخل أصابعه فى فتحات الكهرباء رغم الزجر، ثم الكبير وهو يحاول مداراة الفضول ــ الذى يظل يداعبه مهما تقدم فى العمر ــ خلف ستائر متنوعة، كل هذا يجعلنا ندرك أن الفضول سمة بدائية أصيلة، غريزة نولد بها مثلنا مثل الغالبية العظمى من الكائنات الحية: منذ الصرخة الأولى أنت فضولىّ، وحين تتلقى من بيئتك أية إشارات تزداد فضولا، وكلما استخدمت الفضول تعلمت الكثير فى زمن أقصر، بمرور الوقت وبعد أن تُقَيِّدَك الأعراف والتقاليد وتُهَذِّبُ أخلاقُك، فإنك تلتزم الحيطة وتكبت فضولك تجاه أشياء محددة تختارها طواعية أو تُملى عليك.
***
أحيانا ما ينحصر فضولنا فى نطاق شديد الضيق، نستخدمه فى المقارنات السرية التى نعقدها بيننا وبين الآخرين: إن كنا أفضل منهم حالا أو كانوا أعلى منا درجة أو درجات. فى أحيان أخرى يلعب الفضول دورا أهم وأكثر نضجا وحيوية، يفتح أبوابا واسعة أمام مزيد من المعرفة والتطور. كثير من الاكتشافات لم تكن لتولد بغير فضول أصحابها، وشغفهم بالبحث والتساؤل، وتوقهم إلى سبر المناطق المعتمة أمام العقل، دفع بعضهم ثمنا باهظا لقاء شغفه وفضوله، لكن لذة العثور على إجابات لا تضاهيها لذة.. تشبع النفس وتطبب الأوجاع وتحيلها أوسمة ونياشين. فضول جاليليو أفقده بصره أمام التلسكوب لكنه أضاء الطريق لمن جاءوا بعده، ومثله روبرت بانس الذى أضاع عينيه خلال أبحاثه الكيميائية وكاد أن يموت تسمما بالزرنيخ، وكذلك كارل شيل الذى أصر على اختبار العناصر الجديدة عن طريق تذوقها، فابتلع سيانيد الهيدروجين والزئبق شديدى السمية ومات، ثم جون فرنسوا فروزييه الذى استهوته محاولات الطيران فترك معمل تجاربه وصنع بالونا حَلَّقَ به فى السماء لكنه انفجر وسقط أرضا، مات ليشبع فضوله، فحذا حذوه آخرون حتى أتى النجاح. هناك أيضا فاراداى الذى لم يتراجع عن أبحاثه حتى بعد أن فقد زميله البصر بسبب انفجارات غاز كلوريد النيتروجين الشديدة، وكان أن توصل إلى عمليات الفصل الكهربى التى تعد أساسا هاما لكثير من التفاعلات الكيميائية، وهناك مارى كورى التى تعرضت للتسمم الإشعاعى، وتوفيت بعد إصابتها بسرطان الدم، لكنها كانت قد اكتشفت عنصر الراديوم وحازت جائزة نوبل للعلوم، وقدمت دَفعَة هائلة لعجلة التقدم الإنسانى.
فى مقدمة طابور الفضوليين يقف آدم وحواء جنبا إلى جنب، صحيح أن أحدا منهما لم يملك معملا للتجارب والأبحاث، ولم يكشف سرا من الأسرار العلمية، لكنهما أول من حرقه الفضول تجاه ما لا يعرف، وأول من تجرأ على طرق أبواب العصيان وغامر فى سبيل اكتشاف المجهول. ربما دفعتهما الظروف الميسرة والحياة الهانئة، الخالية من هدف ومعنى، إلى البحث وراء علامة الغموض الوحيدة أمامهما، عسى أن تأتى بجديد يُضفى البهجة، أو يُضيف مزيدا من الفضول: إلى الشجرة.
يحلو للبعض أن يُعطِىَ آدم دور المغلوب على أمره، أن يرسمه مُغررا به، ضحية لنزق حواء وغوايتها، لكن غواية الاكتشاف أعمق تأثيرا من ألف حواء، وأَرَقُ الفضول أكثر قوة من كل الحواجز. تَشَارك آدم وحواء الهاجس ذاته، انتابهما ــ رغم كل العواقب والتبعات ــ ذاك الظمأ الذى لا ينطفئ تجاه ما يخفى، كسرا قيودهما الداخلية وخاضا التجربة، وأهديا إلينا أرضا وسماء وبحارا، خلقا المكافحين والمناضلين والسعداء والتعساء والأشقياء، دفعا الثمن وحملا على أكتافهما وِزر النزول إلى الأرض والتخلص من الراحة والرفاهية، وِزر الانخراط الأبدى فى دورة الكد والشقاء، أعطيانا كذلك أسبابا وجيهة كى نظل على فضولنا فنشاغب ونقتحم ونحطم الممنوعات، ثم نخفق أو ننتصر. يُتَرجَمُ فضولهما بالطمع وتجاوز الحدود، ويُعلل بالرغبة فى نوال ما لا يجوز، لكن تلك على أية حال طبائع البشر، وبمقاييس العلماء هى صفات تُورث النجاح لا الفشل.
***
ينعم بهدوء البال والسكينة من لا يملك بذرة الفضول، لكنه يظل مجدبا، لا تُنبِتُ أرضُهُ فكرة أو سؤالا ولا تختبر أية احتمالات، من لا يملك فضولا تجاه العالم، لا يشتاق إلى معرفة جديدة وحياة مختلفة، لا يتمرد على سلطة ولا يكسر مستحيلا، لا يسعه أن يبحث فى خياله عن بدائل أكثر رحابة. يحمينا الفضول من أن نتجمد فى أماكننا، من أن نموت سكونا، حتى وإن جلب المتاعب والأزمات، وحتى وإن لم يحقق النتائج المرجوة، فالتجربة ذاتها تشفى وتداوى وتصنع حالة من الانتشاء، كتب جاهين فى رباعياته: أنا اللى بالأمر المحال اغتوى.. شفت القمر نطيت لفوق فى الهوا.. طلته ما طلتوش وإيه أنا يهمنى.. وليه مادام بالنشوة قلبى ارتوى.
ربما يجدر بنا أن نشجع الصغار على اتباع فضولهم بدلا من أن نوبخهم، أن نقول لهم أن اسألوا، ولا تخشوا السؤال، ولا تخشوا غياب الإجابات.. اكتَشِفوا ولو بدا الأمر غير مطمئن، ولو بدا بديهيا وتافها، فهؤلاء الذين يفضلون الجلسة المستريحة عن أرق البحث ومغامرة الاكتشاف، هؤلاء لن يعرفوا أبدا ذاك الإحساس الرائع الذى اختبره فى البدايات آدم وحواء.