تعج مواقع التواصل الاجتماعى بصور، غالبيتها أبيض وأسود، بعضها شخصى، وبعضها لمعالم من المدنية والريف، سواء كانت جامعات أو شوارع أو محلات أو حفلات. هذه الحالة فى تصاعد، وكأن هناك خيطا سريا رفيعا يربط الناس جميعا المسكونين بذلك.
أعرف أن الأبيض والأسود له بريق خاص، سواء كان فى صورة أو فيلم قديم، يحمل فى ذاته سحرا وجمالا خاصا، ولكنى أظن أن السبب المباشر الذى يشغل بال الناس الذين يبحثون عن صور قديمة هو المقارنة بين حال الماضى وحال الحاضر، وما بينهما من هوة، نتيجة التدهور الذى شهده المجتمع على مدى عقود، حتى صار مسخا، مشوها، مزدحما. صورة الفتيات اللاتى يرتدين ملابس الموضة فى الجامعة فى ستينيات القرن العشرين، أو سيدات ورجال الطبقة الوسطى بملابسهم المهندمة فى حفلات أم كلثوم، أو الطلاب والطالبات بالزى المدرسى، الخ، تشكل جميعها رسائل مصورة عن حال مجتمع كان متقدما اجتماعيا، والآن نحن نعيش حالة مجتمع يعانى من تراجع ثقافى واجتماعى وسلوكى مريع. روت لى أستاذة جامعية أنها وبخت طالبة على عدم التزامها فى المحاضرة، ودعتها إلى اللحاق بها بعد ذلك فى مكتبها، وعندما جاءت الطالبة، ودققت الأستاذة النظر فيما ترتديه اكتشفت أنها ترتدى اسدالا على جلباب قطيفة مما ترتديه النساء فى البيوت. القضية بالمناسبة ليست فقط «شكل الزى»، ولكن وهذا هو الأهم تدهور الذوق العام. وصرنا نفتقر إلى ملابس الطبقة الوسطى صاحبة الذوق الرفيع، وصارت ترتدى ما بين ملابس أقرب إلى أغطية للجسد، وبين ملابس أخرى على موضة البنطلونات الممزقة، وأشكال الملابس التى لم تعد تُعرف ما إذا كانت تناسب منزلا أم ناديا أم مكانا عاما.
الملابس هى أحد عناوين التقدم الاجتماعى، وفى ظل تآكل الطبقة الوسطى تحت وطأة الأزمة الاقتصادية التى يعانى منها المجتمع، سوف يلجأ أفراد هذه الطبقة إلى نوعية من الملابس رخيصة الثمن، التى تفتقر إلى الشكل الجمالى مثل تلك التى أصبحت منتشرة على الأرصفة، أو تبيعها محلات صارت متخصصة فى الملابس المستوردة، وبعضها مستعمل أو فرز ثانٍ، ولا أحد يلوم أبناء هذه الطبقة التى تنهال على ظهورهم سياط الأسعار، ومحدودية مصادر الدخل، وثابتها، بينما الاقتصاد يتخبط من حولهم.
قد تجد الطبقة الوسطى، بشكل واعٍ أو لا واعٍ، أن فى نشر الصور القديمة تعويضا نفسيا أو انفصالا مرحليا عن واقع صعب، ولا تشغلها صور جذابة من هذا الواقع، قدر ما تحن إلى الماضى بذاكرته المصورة. بالمناسبة هذه ليست حالة مصرية فقط، فقد نجدها فى حالات كثيرة، تعيش بعض المراكز والمنتديات على توثيق ذاكرة الماضى، سواء فى صور أو تسجيلات أو وثائق، ولكنه يمثل توثيقا للماضى، دراسيا أو فنيا أو بحثيا، لكن الحالة التى أتحدث عنها هو استدعاء نفسى للماضى أو نوستالجيا كما يقول المفكرون.