التدين يدق أبواب أوروبا. هذه الملاحظة استخلصتها فى السابق من متابعة تنامى مظاهر التدين فى كثير من المدن الأوروبية، والتى بدأت كنائسها تعرف صلوات مسائية يحضرها المئات فى روما وبرلين وغيرها، وتظهر فيها الإعلانات الدينية الصريحة، وتأكدت منها فى أثناء زيارة قصيرة لبريطانيا. المظاهر الدالة على ذلك كثيرة. ولكن السؤال: ما طبيعة التدين الذى تعود إليه أوروبا؟
(1)
آثارت تصريحات «دافيد كاميرون» رئيس وزراء بريطانيا أخيرا حول الطابع المسيحى لبريطانيا ــ تساؤلات بشأن عودة الحديث عن المكون المسيحى فى القومية البريطانية، كما ذهب بعض المحللين. لم تكن الإحالة إلى الدين أو الإشارة إلى القيم الدينية مألوفة فى خطاب حكومات أوروبا منذ عشرين عاما، ولكن تغير الأمر اليوم. وقد حاول تشارليز تايلور، واحد من أهم علماء الاجتماع المؤيدين للعلمانية فى حوار معه تفسير هذه الظاهرة، بقوله: «كثير من المثقفين الليبراليين ظنوا فى آواخر القرن العشرين، أن الدين سوف يختفى، ولكن فجأة، عاد بتأثيره ومؤسساته».
فى بريطانيا، رغم تراجع التدين ــ على مدى عقود ــ المتمثل فى انخفاض عدد المترددين على الكنائس، ورفض «المطلق الدينى» باعتباره «مقيدا» للفعل الإنسانى الحر، وظهور التعبيرات الثقافية المجافية للدين، فإن عدد من يحضرون صلوات الأحد يتجاوز الآن مليونا شخص، وهو ما يزيد على عضوية الأحزاب الكبرى. وهناك الخدمات الاجتماعية التطوعية المرتبط بالكنائس، لم تعد الحكومة تقدمها، كل ذلك يزيد المؤسسة الدينية ثقلا، باعتبارها واحدة من أقوى المؤسسات فى المجتمع البريطانى.
فى برايتون المدينة الساحلية جنوب بريطانيا يتجمع على الشاطئ يوم الاحتفال بعيد القيامة، عشرات الآلاف من كل الكنائس، وهو أمر جديد، يشبه إلى حد بعيد التجمع الضخم الذى تحرص عليه الكنيسة المسكونية فى برلين فى مايو من كل عام أمام مبنى الحكومة، ويشارك فيه ما يقرب من ربع مليون شخص.
(2)
المعركة الدائرة فى بريطانيا الآن حول التعديل القانونى الذى يشمل الاعتراف بزواج المثليين تقدم وجها آخر لصعود التدين. أعلنت الحكومة بزعامة دافيد كاميرون الرغبة فى تعديل القانون بما يسمح بزواج المثليين عام 2015، وتوثيق الزواج أمام الموثق المدنى، وخصصت شهرى مارس وإبريل للتشاور حول هذه المسألة. رغم أن استطلاعات الرأى تشير إلى أن ثلثى السكان يؤيدون التعديل القانونى، إلا أن هناك حالة من الرفض الممزوج بالغضب تخطت الدوائر الدينية إلى السياسة. هناك «تململ» فى أوساط حزب المحافظين الذى يتزعمه كاميرون، وأعلن مائة من أعضائه فى مجلس العموم رفضهم لتعديل القانون، وانضمت إليهم حركة مدنية شعبية للحفاظ على الزواج. وحذر عضو بارز فى مجلس اللوردات من «فوضى تشريعية»، وذكر رجال قانون أن إعادة تعريف الأسرة سوف يقضى على مفاهيم تقليدية راسخة فى النسيج الاجتماعى حول «الزوج» و«الزوجة» و«الأب» و«الأم» تجسدت فى تشريعات يعود عمرها إلى ثمانية قرون. وتظهر كلمة «الزواج» (3258 مرة) فى القوانين البريطانية، وتستخدم القوانين الحالية كلمة زوج (1003 مرات)، والزوجة (888 مرة). اللافت للنظر أن القانون الحالى منذ عام 2004 يعطى «المثليين» الحق فى تكوين ما يعرف بالشركة المدنية، أى الاعتراف قانونا بالعلاقة بينهما، ويحصل طرفا العلاقة تبعا لذلك على نفس حقوق الملكية، تماما مثل المتزوجين، وأيضا الاعفاء من ضرائب الوراثة، والتأمين الاجتماعى، وغيرها، لكنه لا يعتبر هذه العلاقة زواجا.
وتدخل الكنيسة الانجليكانية على خط الرفض بقوة لأى تعديل قانونى لمفهوم الأسرة، حيث يذهب «جون كارى»، وهو عضو فى مجلس اللوردات ورئيس سابق للكنيسة الانجليكانية أن «الزواج يتجاوز الكنيسة والدولة معا، ولا يحق لأى من هاتين المؤسستين أن تعيدا النظر جذريا فى مفهوم الأسرة»، وعلق الرئيس الحالى للكنيسة «روان ويليامز» على الدعاوى التى تربط التعديل القانونى بالرغبة فى القضاء على التمييز، قائلا: «هذه مسألة ثقافية، لا يجب أن تمتد إلى القانون». وتجرى حاليا حملة توقيعات من المواطنين الرافضين بمئات الآلاف، وهى فى تزايد، وذكر العديد من القادة الدينيين صراحة «أن الزواج يكون بين رجل وامرأة، وهو ما تعرفه الكنيسة، ولا تعرف غيره منذ قرون بعيدة، ورغم أن ذلك يمثل أساس المجتمع، وعمودا من أعمدة الحضارة فيه فإنه أصبح تحت التهديد، ويستدعى الحماية». وهناك من تساءل صراحة: هل يمكن أن توافق الملكة البريطانية ــ رئيس الكنيسة ــ على تعديل يغير المفهوم الأساسى للأسرة؟
من غير المعروف، هل تستطيع الحكومة تمرير التعديلات القانونية مثلما حدث فى هولندا، وبلجيكا، والسويد، وإسبانيا، والنرويج أم أنها سوف ترتطم بتصاعد الرفض العام؟ لكن بالتأكيد ما يحدث يكشف عن أن «التدين الناعم» فى أوروبا يسترد حضوره تدريجيا.
(3)
فى أواخر الستينيات كتب عالم الاجتماع «بيتر بيرجر» أن التدين سوف يتلاشى فى غضون بضعة عقود بحيث يتحول المتدينون إلى طائفة صغيرة. يشهد بذلك صحوة فى شتى أنحاء العالم من آسيا إلى أوروبا مرورا بالعالم العربى، ولكن تختلف مساراته واتجاهاته.
أوروبا لديها اتجاهان أساسيان، أحدهما يجمع ما بين الروحى والتدين، والآخر عقلانى علمى أكاديمى. فى العصور الوسطى حُكمت أوروبا عن طريق المملكة الرومانية المقدسة، فى عصر النهضة كان للمصلحين البروتستانت دورا فى إضعاف الكاثوليكية، أعقب ذلك حقبة من العلمنة وسيادة التيار العقلانى، إلى الحد الذى يمكن معه القول بأن القرن العشرين علمانى، ولكن الحال آخذ فى التبدل، ويبدو أن هناك موجة جديدة من العودة إلى الدين، اعتبرها أحد القيادات الدينية المحلية فى بريطانيا «هادئة، تحرص على تقديم معنى جديد للحياة، تزيل من ذهن المواطن الأوروبى أن الدين يقيد الإنسان، ولكن العلاقة الخاصة مع الله تدفعه إلى مزيد من التقدم».
يعود التدين هادئا، يقدم المعنى والرمز، ويتحدى مظاهر المجتمع الاستهلاكى الذى يقوم على استهلاك الانسان جسدا وروحا، وهو الخطاب الذى بات يروق للأوروبيين، ويقدم «السيد المسيح» فى الخطابات الدينية الرائجة على أنه «الصديق» الذى ينبغى أن ترافقه فى الحياة. لا تصادم مع تشريعات، أو مراجعة الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. تدين جديد يعترف بمضمون التدين لا شكله، ولا يرتطم بمظاهرها السلبية، فقط يركز على «الشخص»، ومنه ينطلق إلى المجتمع.
على الجانب الآخر هناك صحوة إسلامية، تبحث عن التدين هى الآخرى، ومع تركيزها على بناء «الفرد المتدين»، تمتد بمشروعاتها إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع على الأسس التى تؤمن بها، بما قد يتطلب تغييرات فى البناء القانونى، ونظرة نقدية لبعض الحقوق والحريات الأساسية، وتحديد حركة الأفراد فى المجال العام.
●●●
المسألة ليست فى المفاضلة بين تدين راسخ هنا وتدين متنامٍ هناك، لأن لكل المجتمعات خبراتها التاريخية، وتحولاتها الاجتماعية والثقافية. ما أريد قوله إن السنوات القادمة قد تشهد مساجلات حول قضايا يدخل فيها الدين طرفا أساسيا، وهو ما يستدعى أنماطا أخرى من الحوار الثقافى بين أوروبا والعالم العربى، ليس حول شكل التدين أو فى البحث السطحى فى القيم المشتركة، ولكن حول الموقف من تحولات المجتمع، وقضاياه الأساسية، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. قد يشكل ذلك فرصة يُقدم فيها «النموذج العربى» للتدين بوصفه تعبيرا عن حقوق الإنسان، مرحبا بالتنوع والاختلاف، حاميا للنزاهة ومحاربا للفساد، دافعا للتقدم الاقتصادى. هل بالإمكان أن نطور «مضمونا للتدين» يدعم التقدم، أم أن عقودا من الاستبداد، وتراجع التعليم، وانتشار الجهل الثقافى، والاقتناص السياسى تشكل كابحا أمام تجديد العقل الدينى؟