نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب غسان شربل... نعرض منه ما يلى:
استولى «كورونا» على كل شىء.. وعلى الرغم من كل ما تقدم، راودتنى رغبة فى الفرار من هذا الموضوع الذى استولى على مقالاتنا منذ أسابيع. كنت أبحث عن عذر، وشعرت أننى وجدته حين بلغنى نبأ وفاة نائب الرئيس السورى وزير الخارجية السابق عبدالحليم خدام فى منفاه الفرنسى. يضاعف الموت فى زمن «كورونا» قسوة الموت. يضاعف العزلة والغربة. يرسخ الاعتقاد بأنَ الإنسان دُفع وحيدا إلى نفق كئيب معتم معروفة نهاياته.
لم ينجُ خدام من لعنة «كورونا». أحد أبنائه فقط استطاع مرافقة النعش فى رحلته الأخيرة. المطارات مغلقة والإجراءات صارمة. ضاعف الوباء غربة الرجل الذى كان يبدو منذ سنوات أسير الغربة. الرجل الذى غادر بلاده وموقعه فى نظامها، احتجاجا على اغتيال صديقه رفيق الحريرى فى 2005، لم يستطع العثور لنفسه على موقع آخر. لم يعثر على شرفة أو كرسى. لم ينجح فى ارتداء زى المعارض وطاردته صورة من سبح طويلا فى مياه النظام وقاموسه وتبرير ممارساته. خسر خدام المغادر رصيده فى المكان الذى أمضى عمره فيه، ولم يعثر على تعويض من العالم الذى حاول الفرار إليه. وفى مقر إقامته الفرنسى، بدا دائما رجلا من الماضى. يتحاشى أى قراءة نقدية صريحة لعهد الرئيس حافظ الأسد، كمن يخشى أن يرمى بعمره نفسه من النافذة. لهذا كان يتفادى توجيه الانتقادات إلى الأب، محاولا تحميل الابن وحده مسئولية ما آلت إليه سوريا.
من يعرف بعض خفايا السياسة السورية يعرف أنَ خدام الذى احتفظ بلقب نائب الرئيس خرج من حلقة القرار قبل سنوات من خروجه من البلاد. وبعض من رافقوا تلك المرحلة يعتقدون أن عهد الرئيس بشار الأسد بدأ عمليا فى 1998؛ أى مع انتخاب إميل لحود رئيسا للبنان، وإن كان عليه أن ينتظر عامين ليبدأ عهده رسميا بعد وفاة والده. هذا لا يلغى طبعا تجربة خدام الطويلة الغنية، إذ كان مشاركا فى ترويج سياسات الأسد الأب اللبنانية والفلسطينية والعراقية وغيرها. ولم يتردد هذا الحزبى المدنى فى إتقان فن العيش فى نظام كان الجنرالات عاموده الفقرى، فى ظل القائد الذى كان يبرع فى تحريك البيادق، وضخ القوة فى عروق اللاعبين، ثم سحبها منهم. كان كامل الولاء للرئيس القائد، ولم يتردد فى استعارة الألفاظ الخشنة لفرض سياساته، والتجريح بمحاوريه الرافضين لاعتناق القراءة السورية لأوضاع لبنان أو المنطقة.
حين بلغنى نبأ وفاته تذكرت بضع مسائل سمعتها منه فى دمشق وباريس. سألته ذات يوم عن انتقاد سياسيين لبنانيين أسلوبه الفظ فى التعاطى معهم يوم كانت سوريا فى عز قوتها، فأجاب: «أنا لم أكن ممثل جمعية خيرية، أنا كنت أتحدث باسم دولة يهمها الدفاع عن مصالحها وأمنها واستقرارها، ثم إنَ للتفاوض أساليبه وفنونه، خصوصا حين تعتقد أن من الضرورى أن تدفع الطرف الآخر سريعا إلى تقليص مطالبه أو تحفظاته، وأن مصلحته الفعلية هى فى سلوك أقصر الطرق إلى التسوية. أحيانا، تضطر إلى التفاوض بقسوة لأن ميزان القوى ليس لمصلحتك. يحق لك أن تلجأ إلى التضليل. لقد مارسنا هذا الأسلوب مع دول كبرى، وكان مجديا. لا أنكر أننى قسوت أحيانا على بعض السياسيين اللبنانيين، خصوصا حين كانوا يحاولون تقديم الحسابات الشخصية والصغيرة على الحسابات التى تخص مصلحة البلدين وقضايا كبرى. سمعت كلاما كثيرا عن هذا الموضوع. ولا أريد استفزاز أحد. لكن دعنى أذكر بحقيقة أكيدة. نحن لم نطلب من وزراء لبنان أو نواب أو مسئولين أمنيين تحويل الضابط السورى المقيم فى عنجر (البقاع اللبناني) مرجعا يوميا لهم، ولم نطلب منهم أن يكتبوا التقارير له. دائما هناك من يتبرع، ثم يغسل يديه لاحقا، ويبدأ فى توجيه الانتقادات».
مسألة أخرى تستحق التوقف عندها. قال خدام: «أرسل الخمينى يسألنا عما إذا كانت سوريا مستعدة لاستقباله لأن بقاءه فى العراق صار مستحيلا. طبعا، الوجود فى سوريا يضمن له أمنه الشخصى، كما يضمن له مواصلة معركته مع النظام الإيرانى، من دون أن ننسى البقاء على مقربة من شيعة العراق. تنبه الأسد إلى عواقب استضافة الخمينى، فنصحنا موفديه بالاتصال بالجزائريين، فوافقوا بعد تردد. اتصلنا بدورنا، وحين هم الجزائريون بالموافقة، فوجئنا بفرنسا تعلن ترحيبها به فى أراضيها، وهذا ما كان».
مسألة ثالثة. قال: «طلب الإيرانيون من سوريا صواريخ أرض ــ أرض للرد على الصواريخ العراقية فى حرب المدن. لم يرد الأسد أن يسجل أن مدنا عراقية قصفها الإيرانيون بصواريخ سورية فى عهده، فنصحنا الإيرانيين بالاتصال بالليبيين، وشجعنا هؤلاء. تجاوز الإيرانيون قصة اختفاء الإمام موسى الصدر خلال زيارة إلى ليبيا، وحصلوا من القذافى على ترسانة من الأسلحة».
مسألة رابعة. قال خدام: «لم نتوقع سقوط الاتفاق الثلاثى الذى رعيناه فى لبنان. كان إيلى حبيقة واثقا بجماعته، وأبلغنا أنه ينسق مع العماد ميشال عون الذى شارك فى صوغ الشق العسكرى، وكانا ينسقان ضد الرئيس أمين الجميل. لم نتوقع أن يتجرأ سمير جعجع على قيادة انقلاب، بالاتفاق مع الجميل، ما أخاف عون ودفعه إلى الانكفاء».
غاب خدام وفى جعبته كثير من الأخبار والوقائع والأسرار. فضل الصمت، وتذرع بأن مذكراته جاهزة وتنتظر التوقيت المناسب. عززت التطورات السورية فى السنوات الأخيرة إقامته فى النفق الكئيب، وغادر وحيدا فى زمن «كورونا».