قبل أكثر من عام من وفاتها أرسلت لى صديقة عمرى حنان كمال التى انتقلت لرحمة لله مسودة لكتاب كتبته بإلحاح منى ومن أصدقاء آخرين يروى مشاهد من رحلتها العامرة بالأمل والألم.
كنت قد رويت لها بعد أن عرفت حكاية مرضها قصة إعجابى بكتاب كتبه سعدالله ونوس فى محنته عن الذاكرة والموت وحكيت لها كيف أن كتاب «سأكون بين اللوز» للشاعر الفلسطينى حسين البرغوثى كتبه كعلاج فى رحلة شبيهة ورددت أمامها كل ما هو متكرر عن الكتابة كفعل لمقاومة المرض وكانت مولعة بديوان جدارية لمحمود درويش وتردد أمامي مقاطع منه وتقولها بسخرية (لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى /لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ /كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ / ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ، /فلنذهب إلى أَعلى الجداريات: أَرضُ قصيدتى خضراءُ، عاليةُ، /كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتى وأَنا البعيد).
قالتها لتهرب من الفكرة لكنها كتبت بغزارة فيما بعد نصوصها التى أرسلتها لى لكى أقدمها لناشر وتحمس الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد لكتابة مقدمة، غير أن أحوالها وأحوال البلد لم تسمح لنا بنشر الكتاب الذى كتبت بعده كتاب المشاهدة الذى نشر فى دار «ميريت» لكن هذا الكتاب الذى لم تضع له اسما، لا يزال فى بريدى كأنه رسالة طمأنينة من حنان ومنه اخترت المقاطع التالية:
عزيزى الله:
يقولون انك تحبنى كثيرا لذلك اثقلت على بالابتلاءات، وأنا لم اعترض يوما، فاذا كانت الابتلاءات هى قدرى، فمحبتك هى عطر روحى ونورك هو سندى وملجأى فى الأيام الأولى بعد وقوع الحادثة، كنت اشعر كأن شيئا ما يسحق عظام روحى، يبدد اعجابها بذاتها، انت تعلم اننى كنت أحب نفسى وقتها وما زلت، تلك المرأة الباسمة المشاكسة قليلا المبتسمة كثيرا والتى لم تؤذِ احدا طوال حياتها، فى الأيام التالية فهمت حكمة ذلك الترقيق الذى فعلته لروحى، ضغطت على حتى الألم ثم تركت روحى رقيقة شفافة، كانت جميلة حقا وكان جميلا ان اعرف انك معى حتى وان كانت دلالات صحبتك تأتى مع الالم، كان يوما حارا من بدايات ابريل حينما مات محمد، محمد طفل من اطفال الشوارع كان يعيش بجوار مسجد الحصرى ضمن مجموعة من الاطفال تعيش على التسول حتى صدمته سيارة، رأيته فى غيبوبته فى العناية المركزة، حتى فارق الحياة بعد أيام، وفى ذلك اليوم كنت جالسة بجوار أمه وهى تبكى بكاء مرا، كانت تجلس فى الشمس وكان الجو حارا وكنت انا ارتعش من بردى الداخلى، لكننى فى تلك اللحظة ادركت ان الله وضعنى فى زمرة المبتلين كى اتحسس آلاما ما كنت لألمسها وانا جالسة فى بيتى ومستقرى وحياتى الآمنة والدافئة، شعرت فى هذا اليوم انى اعبر النار كى اتطهر وكى انضج، وها انا نضجت، مرت السنوات على، اتممت الاربعين وجاوزتها، ادركت ان تلك المرأة الثلاثينية المشاكسة لم تعد موجودة.
********
للدراويش زمنهم الخاص لا يقلقهم مسارنا اليومى، ولا تلك البؤر الزمنية التى تبتلعنا، الدراويش لا يصارعون الزمن بل يعانقونه بمحبة، ليتنى كنت درويشة حقا فلا تؤلمنى تلك السنوات التى فلتت كحبات عقد شاردة، تدور كبنادول ساعة حول ابتلاءات لا تنتهى، اتأمل الزمن الذى مضى وتركنى على اعتاب الكهولة، بشعر رمادى اتفنن فى اخفاء شيبه، لو كنت درويشة حقا لما تفننت ولا اخفيت ولا اهتممت، لو كنت درويشة حقا لحسوت تلك السنوات المتطايرة من عمرى كحبات مطر ببهجة طفلة صغيرة.