لم يهتم أحد فى مصر بوفاة الكاتب الصحفى الفرنسى برنار بيفو، الذى مات قبل يومين عن عمر ناهز 89 عاما، وعاش عمره سفيرا للقراءة فى العالم.
مات من صنع نجومية الكثير من أشهر كتاب العالم، واستطاع أن يجعل القراءة سلعة تجلب المال وتصنع النجومية واكتسب مكانة رمزية فى مجتمع لا يتوقف عن صنع الرموز وابتلاعها بسرعة الصاروخ.
ففى بلد مثل فرنسا يعيش على صناعة الموضة، ليس من الصعب أن تحول الكتاب إلى سلعة أو تحول المؤلفين إلى نجوم، لكن الصعب أن تفعل ذلك دون أن تستغنى عن شرط القيمة.
لذلك يبدو بيفو مغامرا حقيقيا، فقد واظب على استضافة مفكرين وفلاسفة وروائيين متجهمين، مثل لوكليزيو، موديانو مارغريت دوراس، ألبرتو مورافيا وجونتر جراس وتشارلز بوكوفسكى ومحمد شكرى وكونديرا والروائى الروسى سولجنتسين والفيلسوف جاك دريدا وغيرهم.
وبفضل أسئلته الساخنة واستنادا إلى طابعه المرح غير المتحذلق قرب هؤلاء من الشباب وحول القراءة إلى موضة، لكنه بقى فى دائرة الباحثين عن المعنى، وأضاف للفرانكفونية سفراء جدد من الأدباء والمفكرين والفلاسفة.
ولذلك لم يكن من الغريب أبدا أن ينضم إلى أكاديمية غونكور عام 2004، ويصبح رئيسا لها عام 2014 قبل أن ينسحب منها فى نهاية 2019.
وعلى الرغم من هوس صناع الإعلام فى عالمنا العربى بنسخ البرامج الغربية الناجحة إلا أن أحدا لم ينجح طوال 35 عاما هى عمر الفضائيات العربية فى إنتاج برنامج يماثل برنامج بيفو، لسبب بسيط وهو أن السياق فى بلداننا لا يماثل السياق الأوروبى الذى أفرز برنامج بيفو وحقق له هذه المكانة، كما أن فرنسا ليست كغيرها من بلدان العالم، فالقراءة هناك تقع فى قلب التفاصيل اليومية وليست على هامشها وهكذا يمكن أن نفهم حزن فرنسا على بيفو ونتأمله أيضا.
جعل الرجل من القراءة الاحترافية مهنة وكان الظهور معه حلما يراود مشاهير العالم، لأنهم أرادوا معه الحصول على بطاقة اعتراف تدخل بهم إلى فاترينة العالم.
لقب «برنار كلود بيفو»، بـ«سفير القراءة» لأن برنامجه عاش على القناة الفرنسية الثانية 15 عاما وبُثّ منها 724 حلقة وخلق الكثير من التقاليد التى ضمنت له متابعين تجاوز حاجز الـ 2 مليون مشاهد.
وعلى الرغم من أنه صنع بعد (أبوستروف) برنامجا بديلا هو «بيون دو كيلتور» إلا أن تأثيره كان أقل وقف بثه سنة 2001
يقول البعض إن غياب برنامجه (فواصل) أو (أبوستروف) كان طبيعيا بعد ميلاد شبكة الإنترنت، حيث أصبح فى استطاعة كل قارئ الوصول إلى ما يريد، إلا أن الواقع يقول أيضا أن بيفو احتفظ بجمهوره ولم يفقده أبدا، كما لم يفقد هو الشغف بالمهنة واشتبك مبكرا مع مواقع التواصل الاجتماعى وأطلق عند دخول تويتر صيحته الشهيرة «من الآن يجب على الصحفيين ألا يتوقفوا عن التغريد».
كما أنه تحول رغم توقفه عن العمل التلفزيونى إلى مؤلف لعدد من الكتب الناجحة وأبرزها ( كتاب حياتى ) كتابه الذى ترجم إلى اللغة العربية بعنوان (مهنة القراءة) وصدر عن «منشورات تكوين» وضم مراسلاته وحواراته مع المؤرخ بيير نورا والتى دارت حول تجربته فى الصحافة التلفزيونية بشكل أساسى.
وتقدم الحوارات التى تضمنها الكتاب دليلا عمليا يجب أن يسترشد به من يرغب فى احتراف الصحافة الثقافية، فهو أقرب إلى بيان عملى على معلم، فقد دمج الرجل سيرته الذاتية مع مهنته وروى دون حرج الكثير من المواقف الطريفة وجمع الخيبات مع النجاحات والكوارث من دون خجل أو مبالغة، لأن كل شىء كان على الهواء مباشرة.
أتاح بيفو للقارئ فرصة الدخول إلى مطبخه والتعرف على وصفة لصناعة النجاح، وأعطى إجابات مبكرة لأسئلة تزايدت خلال السنوات الأخيرة، وكشف الكثير من الأسرار حول ظاهرة الكتب الأكثر مبيعا، وتحدث من واقع خبرة مذهلة عن فن صناعة الحملات التى تصاحب الكتب وتصل بها إلى الجوائز ومنصات التتويج، وفى ظنى أن الدرس الأهم فى الكتاب يتعلق بواجبات المحرر المحاور ودوره فى تطوير الحوار.
لم يخجل بيفو فى كتاباته من الاعتراف بنقص موهبته فى الكتابة الأدبية، كما لم يتوقف أبدا من السخرية من فشل الروايات التى كتبها ولم تحقق النجاح وظل فخورا بنجاح كتبه التى استندت إلى تجاربه التى أحبها الناس ومنح الثقة من أجلها وهى ثقة أصبح من الصعب منحها لغيره فى زمن التيك توك حيث كل شىء إلى زوال.